مع صياح الديك المتزامن مع شروق الشمس من كل نهار إثنين، تنشط "سوق الإثنين" في النبطية، غير آبهة لمدافع وصواريخ الحرب الدائرة جنوبًا، والتي دفعت بأمثالها من الأسواق الشعبية للإغلاق في كل من بنت جبيل وسوق الخان في حاصبيا.
وحدها سوق الإثنين بقيت صامدة داخل النبطية على الرغم من التهديد الذي يحاصر البائعين والزوار.. فهكذا تراهم يتشبثون بخيمهم، عارضين بضائعهم المستوردة، بعد أن قلّت وبشكل قياسي البضائع المحلية، بفعل موجة النزوح الكبيرة من القرى الحدودية، وعدم القدرة على الوصول إلى الأدوات والمواد الأولية التي تركها أصحابُ المهن خلفهم.
"
لبنان24" رصد الوضع داخل السوق.. حركة خجولة إنما ليست معدومة.. يستعد البائعون لعرض مستورداتهم التي تأتيهم بشكل دوريّ من الخارج، إنّما يشتكون من الأسعار المرتفعة، التي تأثرت بالحرب الدائرة في غزة، إذ إنّ التأمين تضاعف، وهذا ما ارتدّ بشكل مباشر على أسعار البضائع.
أبو يحيى، الرجل العتيق داخل السوق يقول لـ"
لبنان24" أنّه منذ بداية الحرب رفض أن يخرج من خيمته، لا بل أصرّ وبشكل أسبوعي على أن يأتي بأغراضه ويبسّط منذ الصباح ويعود مع غروب الشمس، مؤكدًا أن أصوات القذائف والطائرات والصواريخ التي يتم سماعها على مدار الساعة لم تؤثّر على إيمانه وصموده وقوّته.. كيف لا وهو يعتبر أن أقل ما يمكن أن يقدمه الإنسان لبقاء الوطن هي الدماء والعمر والحياة.
بالتوازي، لم تعد التجارة داخل سوق الخميس في النبطية كما كانت.. فالحرب سرقت الأمن والأمان، ودفعت بأكثر من 100 ألف جنوبي إلى النزوح إلى بيروت والبقاع أو إلى مراكز الإيواء، ومن ظلّ مستقرًا في القرى الحدودية، لا يستطيع السوق أن يعوّل عليه فقط.
أحد التجار يشير لـ"
لبنان24" إلى أنّه مع بدء الحرب لم يتأثر السوق بشكل مباشر بما حصل، إلا أن الأشهر اللاحقة، خاصة ما بعد انتهاء الهدنة أدّت إلى خسائر كبيرة على صعيد السوق، إذ إنّ أغلب التجار فضّلوا أن يذهبوا إلى بيروت أو البقاع أو أي منطقة أخرى ليعملوا هناك بدل خسارة رأس المال بسبب الضربات الإسرائيلية، خاصة وأن الأسعار لم تعد كما كانت.
وحسب المعلومات، فإنّ اشتداد الحرب دفع بقرابة 10 تجار فقط إلى إعادة فتح خيمهم وبسطاتهم، ومع توالي الأيام، اقتنع عدد أكبر منهم بضرورة التغلب على الخوف، وعلى أصوات المدافع الإسرائيلية. وحتى اليوم فإن ما بين الـ 35 و 40 بائعًا استأنفوا نشاطهم داخل السوق، متأملين أن تنشط الحركة بشكل أكبر.
سوق بنت جبيل ليس أفصل حالا
ومن النبطية إلى بنت جبيل، يحاول سوق الخميس هناك أن يتماشى مع ويلات الحرب، حيث يستذكر التجار صيف 2023، والذي اعتبروه قاعدة الإنطلاق الجديدة للبنان، التي ستؤمن فرصة لإحياء الدورة الإقتصادية.. فتاريخيا كانت مدينة بنت جبيل تشهد أهم حركة تجارية، خاصة على صعيد سوق الخميس الذي يعود عمره لما قبل النكبة، إذ كان الناس يقصدون السوق من كل أنحاء لبنان، ومن فلسطين أيضا، حيث تشهد طريق "عقبة صلحا" على تاريخ القوافل الفلسطينية التي كانت تدخل وتخرج من وإلى لبنان بشكل يومي، بالاضافة إلى تجار حمص وحلب الذين كانت لديهم حصة وازنة داخل السوق.
وحتى عام 2023 حافظ سوق الخميس في بنت جبيل على مكانته وقوته، إذ شهد العام الماضي فورة اقتصادية وازنة، جذب من خلالها السيّاح والزوار من كل حدبٍ وصوب، وذلك بعد معاناة ليست بالسهلة خرج منها السوق إبّان حرب 2006 التي أهلكته بشكل كامل، إذ لم يعاود العمل بسهولة أبدًا، وهذا ما يحصل تمامًا بعد فتح جبهة المساندة جنوبًا والتي أدت إلى إغلاق السوق.
سوق الخان يُشاطر سوق الخميس مأساته
ما حصل في بنت جبيل، حصل أيضا داخل سوق الخان في حاصبيا، إذ إنّ السوق الذي يعود تاريخه إلى 660 عامًا، والقائم على آثار المملوكية، يعاني اليوم من ويلات الحرب، إذ غابت "عجقة" يوم الثلاثاء التي كان يتميز بها هذا السوق والذي يفتح أبوابه أمام الزوار كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع.
وقبل أن تحتل إسرائيل فلسطين، كان "سوق الخان" أو ما يعرف بسوق الثلاثاء مساحة التقاء بين لبنان وسوريا وفلسطين، إلى أن اقتصر روّاده اليوم على السياح، واللبنانيين، إذ بعد نكبة 1948، انقطعت حركة التجارة المباشرة بين سوريا ولبنان وفلسطين عبر هذه الأسواق.
حاليًا لا يتجاوز عدد الباعة الثلاثين شخصًا أيام الثلاثاء، إذ يحاولون داخل السوق الذي تبلغ مساحته 30 دونمًا الإستفادة قدر المستطاع خلال فترات التهدئة، أو الفترات التي لا تشهد أي قصف إسرائيلي مركّز.
من هنا يقول الشيخ أبو رامي خلال اتصال عبر "
لبنان24" بأنّ السوق يشهد انتكاسة حالية، إلا أنّنا نحاول أن نعزّز تواجدنا بين ثلاثاء وآخر على الرغم من صعوبة الأوضاع.
ويؤكّد أن حركة السوق تراجعت، والبضائع والمنتجات تراجعت معها، إذ خلال أيام الأسبوع العادية، أي من الأربعاء إلى الإثنين لا يأتي إلى السوق أكثر من 5 أو 6 باعة، يحاولون بيع الخضار والفاكهة وبعض المنتجات، ويرتفع عدد الباعة يوم الثلاثاء، إلا أن العديد من المنتجات والبضائع باتت غير معروضة لسبب عدم تمكن أصحابها من الوصول إلى سوق "سوق الخان" بعد أن نزحوا إلى مناطق بعيدة، مشيرًا إلى أن غياب العدد الأكبر من الباعة ساهم بتعزيز الأزمة، إذ يأبى المئات زيارة السوق على الرغم من الأوضاع الأمنية المستتبة، وذلك كي لا يخاطروا بحياتهم، حسب الشيخ أبو رامي.
ومن الجنوب إلى بيروت، لا يزال سوق الأحد الشعبي الكبير، المكان الأكثر حركة واكتظاظا، إذ يعمل على استقطاب المئات لا بل الآلاف من الزوار.
هذا السوق الذي يجمع كافة أنواع المبيعات والمنتجات، بات مقصد العديد من الأشخاص الذين تأثرت قدراتهم الشرائية منذ بدء الأزمة في لبنان، إذ يضم قرابة الـ400 بسطة التي تعرض مختلف المنتجات والبضائع، بالاضافة إلى الثياب والكتب والأدوات المنزلية والإلكترونية وغيرها العشرات من الأنواع.
ومع تنظيم السوق، ومحاولة القيمين عليه تطويره كي يلبي كافة الإحتياجات، خاصة بعد الأزمة الإقتصادية الأخيرة التي ضربت البلاد، أصبح هذا السوق المتنفس الأول لكل طبقات المجتمع ولم يعد مقتصرا فقط على طبقتي الفقراء ومتوسطي الدخل.
ولا يزال هذا السوق يتميز بأسعاره، إذ بجولة لـ"لبنان24" داخله، تم التماس التحول الواضح بنهج السوق، الذي بات يضم بضائع جديدة، ذات نوعية جيّدة وباب أوّل، وبأسعار أكثر من منافسة، هذا عدا عن إدخال بضائع ستوك أوروبي.
ومن بيروت إلى طرابلس، يستحق سوق الأحد هناك لقب سوق "الأحد الشعبي الأكبر"، الذي يضم المئات من البسطات المتنوعة من أدوات كهربائية وثياب وإكسسوارات بالاضافة إلى الحيوانات.
وبالفعل، يشكّل أيضا هذا السوق مساحة التقاء واسعة، إذ إن الأوضاع التي تمرّ بها البلاد، ومع تراجع القدرة الشرائية خاصة في مناطق الشمال جعلت من هذا السوق مقصدًا للآلاف من اللبنانيين الذين يستفيدون من الأسعار المخفضة.