مَنْ تابع المناظرة الرئاسية الاميركية بين المرشحين جو بايدن ودونالد ترامب اعتقد للوهلة الاولى أنها بين أثنين من الطبقة السياسية اللبنانية. الفرق أن اللغة مختلفة، وإن كان المضمون مشابهًا للحوارات على شاشات التلفزة اللبنانية، التي تكثر هذه الايام بين الاضداد. وقد يكون المقصود من معدّي البرامج الحوارية اللبنانية استقبال ضيفين لا يجمع بينها سوى التناقض في المواقف، التي لا تخلو من شحذ لكمّ هائل من الحقد والكراهية، وذلك بهدف كسب أكبر نسبة من المشاهدة، غير آبهين بما يمكن أن يتركه هذا النوع من "التوك شو" من آثار سلبية على مختلف شرائح المجتمع، وبالأخص على الشباب، الذين كفروا بكل شيء، ولم تعد تنطلي عليهم الوعود الكاذبة، التي تُطلق من هنا وهناك، وهم قد أصبحوا في عالم آخر في زمن "الذكاء الاصطناعي".
فما شهدنا في تلك المناظرة بين مرشحين لرئاسة أكبر دولة، وما فيها من اسفاف، لم يكن غريبًا على الجمهور اللبناني الذي اعتاد على هكذا مناظرات، ولكن بنكهة لبنانية، مع ما فيها من تناقضات ومن كمّ هائل من الحقد. ولولا الحياء لكانت تحوّلت الشاشات إلى حلبات للمصارعة، وقد شهدنا أكثر من حفلة "خبيط" بين من يسمّون أنفسهم محاورين، وهم لا يعرفون من هذه الكلمة سوى ما له علاقة بالتهشيم والتهديم وبث أجواء من اليأس.
فإذا كانت هذه هي الحال مع متحاورين أثنين فهل يمكن أن نتصوّر كيف سيكون عليه وضع المتحاورين، الذين سيدعوهم الرئيس نبيه بري إلى جلسات حوارية متى تأمّن له العدد الكافي وهو 86 نائًبًا، إلا إذا كان شكل الحوار بين متفقين على كل شيء تقريبًا حتى على اسم المرشح على رئاسة الجمهورية.
المشكلة الأساسية في أي حوار، سواء أكان بين أثنين أو أكثر، هي في كيفية إدارته، إذ يُفترض بمن يتولى هذه المهمة أن يكون محايدًا وحكمًا، لأنه متى انحاز إلى رأي فريق على حساب رأي الفريق الآخر تضيع الطاسة، ويصبح الحوار تراشقًا بالاتهامات والتخوينات المتبادلة، ومحاولة من قِبل كل طرف لإقناع الآخر بوجهة نظره، واللجوء إلى الصوت العالي واستخدام مفردات لم نسمعها في الحوارات الراقية كالمناظرة الشهيرة على سبيل المثال بين العميد ريمون أده والوزير بهيج تقي الدين.
فعن أي حوار نتكلم إذا كان كل فريق من الأفرقاء اللبنانيين المتباعدين عن بعضهما البعض كبعد الأرض عن القمر يعتقد أنه يملك كل الحقيقة، ويرى أن الفريق الآخر هو دائمًا على خطأ فيما هو وحده على صواب. هذا هو الواقع، الذي يجعل التنافر بين هذين الفريقين حالًا مستدامة. وهذا ما يعطّل كل شيء في البلاد. المشكلة أن كل فريق من هذين الفريقين يعتبر أن "بيو أقوى من بيّ الثاني". والأدهى من كل ذلك أن لا أحد منهما على استعداد للتنازل عن بعض مما يعتقده صحًّا. فلو تنازل كل فريق عن بعض هذه الاعتقادات، وتقدّم خطوة في اتجاه الآخر لملاقاته عند منتصف الطريق لأصبح الوضع أفضل مما هو عليه الآن، ولأصبح للجمهورية رئيس توافقي بكل ما لهذه الكلمة من أبعاد ومعانٍ، خصوصًا أن المرشحين الإثنين المطروحين من قِبل محور "الممانعة" أو من قِبل محور "المعارضة" لن يحظيا بالإجماع المطلوب إلا إذا تغيّرت المعادلات الدولية والإقليمية عند تقاطع ما في المفاوضات الأميركية – الإيرانية. وهذا الأمر مستبعد حاليًا أقّله إلى ما بعد الانتخابات الأميركية في ضوء ما أسفرت عنه المناظرة بين مرشحي الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري، مع أرجحية واضحة لترامب على خصمه الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن.
فما دام كل من فريقي "الممانعة" و"المعارضة" غير مستعدين لتقديم أي تنازل في ما خصّ الاستحقاق الرئاسي، سواء بالنسبة إلى الذين يطالبون بالحوار قبل الجلسات الانتخابية، أو بالنسبة إلى الذين يتمسكّون بتطبيق حرفية الدستور لإتمام هذه العملية بما يسمح بانتخاب رئيس وفق ما تقتضيه الآليات الديمقراطية السليمة، على أن تلي هذه العملية ترجمة فعلية لهذه النتيجة، بحيث أن الأكثرية تحكم فيما تقوم الأقلية بممارسة دورها في المعارضة كما هي الحال في معظم الدول الديمقراطية.
هي مجرد أفكار من المؤكد أنها لن تلقى ترجمة على أرض الواقع.