نرى اليوم طرائق جديدة في العمليّات الماليّة، سواء الكبيرة والمعقّدة أو اليوميّة البسيطة، ويعود الفضل في ذلك إلى المحافظ الرقميّة/ الإلكترونيّة، الّتي ظهرت منذ عقود، إلّا أنّها مؤخّرًا باتت تغزو كل نواحي الحياة الاقتصاديّة، خصوصًا مع انتشار الأجهزة الإلكترونيّة المحمولة، والقابلة للارتداء كالساعات الذكيّة، فباتت عمليّة الدفع المعقّدة سابقًا، من أسلس وأيسر العمليّات في حياتنا اليوميّة.
كما أضحى التسوّق الإلكترونيّ أحد الأساليب المفضّلة عند كثيرين، بالتحديد الأجيال الشابّة، إذ انفتحت على السوق العالميّة في عالم السرعة والتبضّع الافتراضيّ. فأصبحت، بالإضافة إلى انخفاض قيمة الليرة اللبنانيّة، سببًا جوهريًّا إلى اعتماد المحافظ الرقميّة، كونها أداة فعّالة لتسهيل العمليّات الماليّة، وتعزيز الشعور بالاستقرار والراحة.
كذلك، عرف المشهد اللبنانيّ تغيّرًا كبيرًا في الإدارة الماليّة لدى الأفراد والشركات في إثر الأزمة الاقتصاديّة الحادّة، وما تبعها من تضخّم، وانهيار في القطاع المصرفيّ، وفقدان الثقة بالمصارف التقليديّة الّتي حدّت من عمليّات السحب، وجمّدت رأس المال، الأمر الّذي أكسب المحافظ الرقميّة زخمًا وساعد على نجاحها في العمليّات الماليّة.
بالطبع فقد وافق مصرف لبنان على هذه الآليّات التقنيّة، وتكنولوجيا المعلومات المستخدمة، وذلك وفق شروطه الّتي وضعها في التعميمين ٦٣ و٦٩ تواليًا، وما تبعهما من تعديلاتٍ لاحقة، بما فيها موافقته على ١٣ محفظة إلكترونيّة في السوق اللبنانيّة. ومن التسهيلات الّتي قدّمها مصرف لبنان أيضًا، أنّه سمح لكلّ لبنانيّ، حتّى وإن لم يكن من أصحاب الحسابات المصرفيّة، إمكانيّة حصوله على هذه المحافظ، بموجب التعميم الوسيط رقم ٥٨٨.
بالإضافة إلى ما ذُكِر، يمكن أن تكون هذه المحفظة بالليرة اللبنانيّة أو بالعملات الأجنبيّة. إذ تعمل المحافظ الرقميّة في لبنان عن طريق الربط بالحسابات المصرفيّة أو بطاقات الائتمان الخاصّة بالمستخدمين، أو عن طريق السماح للعملاء بتحميل الأموال مباشرةً في التطبيق.
عمومًا، تُتيح المحافظ الرقميّة مجموعة مختلفة من العمليّات الماليّة، ويشمل ذلك دفع الفواتير، والمعاملات الماليّة الدوليّة، والدفع بالتجزئة، والقيام بالتحويلات الماليّة الفوريّة، متجاوزة عقبات الحاجة إلى النقد، أو التحويلات المصرفيّة فتساعد المستخدمين على تلقّي التحويلات الماليّة من المغتربين اللبنانيّين، وهو مصدر دخل مهمّ للعديد من الأُسر.وهي تسهّل أيضًا المدفوعات لدى التجار في ظلّ نقص السيولة النقديّة المادّيّة، وتدعم بعض المحافظ الرقميّةالتحويلات الدوليّة.
هكذا، وسّع اعتماد المحافظ الرقميّة نطاق الشمول الماليّ عن طريق توفير إمكانيّة الوصول إلى الخدمات الماليّة الرقميّة لأولئك الذين قد لا يمتلكون حسابات مصرفيّة تقليديّة، ولا سيّما في المناطق الريفيّة، والأماكن الّتي تعاني من نقص الخدمات. كما توفِّر للشركات الصغيرة حلًّا فعّالًا للدفع، فتساعدها على مواصلة عمليّاتها في ظلّ الظروف الاقتصاديّة الصعبة.
على الرغم من فوائدها الكثيرة، تواجه المحافظ الرقميّة العديد من التحدّيات في لبنان، خصوصًا بما يتعلّق ببُناه التحتيّة، وهذا ما يُفَسِّر تباين اعتماد هذه التقنيّات بين الريف والمدينة. كما تبرز المخاوف الأمنيّة، فعلى الرغم من معايير السلامة العالية، إلّا أنّها ليست محصّنة ضدّ التهديدات الإلكترونيّة، ناهيك عن التصيّد الاحتياليّ، والقرصنة.
ختامًا، قد تؤدّي المحافظ الرقميّة دورًا مهمًّا في تحسين النظام الماليّ في لبنان. لذلك، يجب تعزيز كل الأمور المساعدة الّتي بدورها تجعل من هذه التقنيّات أمرًا يسيرًا،لا حُملًا يزيد من تعقيدات الواقع الماليّ في لبنان. كما يُبتغى تشجيع الاستثمار في الحلول الماليّة الرقميّة من جهة، وزيادة الوعي بين اللبنانيّين واللبنانيّات بما يخصّ مميّزات المحافظ الرقميّة من جهةٍ أُخرى، وتقديمها بما يلبّي احتياجات السوق، وضمان أمنها الرقميّ وتعزيز الثقة بها.
إنّ ما نحتاجه أكثر من مجرّد تسهيلات "افتراضيّة"، تبدأ بدعم البنية التحتيّة، وتوضيح اللوائح والشروط لمزوّدي خدمات المحافظ الرقميّة، وبناء الثقة بينهم وبين العملاء الّذين يعانون دومًا من هزّات ارتداديّة للواقع المصرفيّ اللبنانيّ الهشّ. حينها يمكننا أن ننتقل بلبنان إلى مكان أمتن استقرارًا ماليًّا، وأعتى مقاومة للهزّات الاقتصاديّة.