وسّع العدو الإسرائيلي المدى الجغرافي لمجازره في لبنان، مستهدفًا شققًا ومبانٍ سكنيّة في قلب بيروت، بالتزامن مع تدمير كبير لتجمّعات سكنيّة في ضاحية بيروت الجنوبية والقرى والبلدات في الجنوب والبقاع وبعلبك. ومع كلّ غارة، وفي كلّ ساعة مروّعة تمضي، يرتفع عدد الشهداء والجرحى، ومعهم عدد المدنيين الهاربين من الصواريخ المدمّرة، في موجة نزوح هي الأكبر في تاريخ لبنان، وفق ما أكّد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. منذ بدء توافد النازحين،تحرّكت اللجنة الوزارية، ووضعت الحكومة امكاناتها لاستيعاب المواطنين الفارين من الهمجيّة الاسرائيلية، فخصّصت حوالي 800 مركز إيواء، يضم ما يقارب الـ 120 ألف نازح، لكنّ الأعداد الكبيرة التي تتصاعد في كلّ لحظة،تجاوزت الامكانات المتواضعة، في بلد محاصر بالأزمات المتتالية منذ خمس سنوات.
مخاطر النزوح ومآسي العائلات النازحة
التدميرُ الممنهج للقرى والبلدات والأبنيّة السكنية بوتيرة صادمة في سرعتها، وما خلّفه من نزوح مليوني بأعبائه الاجتماعية والصحيّة والاقتصادية والأمنية، معضلةٌ متعدّدة الأبعاد، تكاد تتشابه في خطورتها مع الأزمة الماليّة والإقتصاديّة التي عصفت بلبنان في تشرين 2019، خصوصًا أنّها تتزامن مع نزوح سوري مماثل من المناطق المستهدفة "في حال طال أمد الحرب وتصاعد عدد المنازل المدمّرة، سنكون أمام قنبلة اجتماعيّة واقتصاديّة بمفاعيل مدمّرة، من شأنها أن تقوّض امكانات الدولة، وتقضي على كلّ ما تحقّق من استقرار مالي واجتماعي" وفق توصيف مرجع مراقب.
هؤلاء الهاربون من هول الوحشيّة الاسرائيليّة يعيشون ظروفًا مأساويّة، ويواجهون تحدّيات كبيرة لتأمين أبسط مقوّمات العيش كالطعام والمياه والأدوية وحليب الأطفال، وأدوات التنظيف والوسادات والأغطية والفرش التي شهدت أسعارها ارتفاعات جنونيّة. بعضهم لا يزال يفترش الأرض في الساحات والشوارع العامة في بيروت، والبعض الآخر موزّع على المدارس ومراكز الأيواء، والأوفر حظًا منهم لجأ إلى أقاربه، ومن يملك المال استأجر شققًا ببدلات باهظة جدًا.
مليون ونصف مليون نازح!
عدد النازحين تخطّى المليون، وبات يتراوح بين مليون وثلاثمئة ألف ومليون ونصف مليون نازح، وفق ما أكّد رئيس مركز السكان والتنمية الدكتور علي فاعور في اتصال مع "
لبنان 24"، أي ما يقارب ثلث عدد سكان لبنان، لافتًا إلى أنّ عدد النازحين من الضاحية الجنوبيّة وحدها بلغ حوالي 600 ألف شخص، وهناك 300 ألفَ نازح من قرى جنوب الليطاني، فضلًا عن عشرات الآف النازحين من قرى جنوبية أخرى وصولًا إلى صيدا. يتحدث الدكتور فاعور عن مشهد مغاير عما رأيناه في عدوان تموز عام 2006 "في حينه كان العدو يستهدف البنى التحتيّة، اليوم هناك خطّة اسرائيليّة ممنهجة تقوم على تدمير الأبنيّة بسرعة قياسيّة، حيث نرى أحياءً سكنيّة تزول في غضون ساعات قليلة، وهناك أسلحة حديثة تُستخدم في هذه الحرب، أكثر فتكًا وتدميرًا".
منوّهًا بالالتفاف الوطني في استقبال النازحين واحتضانهم، لفت فاعور إلى أنّ عدد النازحين مرشّح للتصاعد، مع استمرار ضرب الأبنية السكنيّة، لاسيّما في المناطق المكتظّة بالسكان "هناك مناطق في بيروت توازي الضاحية في كثافة سكانها، منها منطقة الرمل العالي المصنّفة في قائمة أعلى المناطق كثافة سكانيّة في لبنان، بحيث تزيد على 25 ألف نسمة في المتر المربع الواحد". عن المقبل من الأيام، يرى فاعور أنّنا أمام كارثة إنسانيّة بكافة الأبعاد "حيث تتزامن الحرب مع فراغ في رأس الدولة، وانهيار مالي نتج عنه تصنيف لبنان في قائمة البلدان الأكثر تضخّمًا والأكثر فقرًا، وهنا نتحدث عن فقر متعدّد الأبعاد في الغذاء والتعليم والصحة. كل هذه العوامل تجعل من هذه الحرب أكثر ضراوة وتأثيرًا على اللبنانيين".
اقتحام أملاك خاصة وفوضى في بيروت
في المقلب الآخر من المشهديّة، لا يمكن تجاهل الأزمات التي بدأت تتكشّف في البيئات المضيفة، في بيروت والمناطق، حيث تضغط الكثافة السكانيّة على البنى التحتيّة غير المتماسكة أساسًا، كما تحصل احتكاكات شبه يومية، مع لجوء بعض النازحين إلى اقتحام أملاك خاصّة من فنادق ومدارس خاصة وأبنيّة، كما تحصل إشكالات بين النازحين أنفسهم في الأماكن المكتظّة بالعائلات، يعمل الجيش على معالجتها. في شوارع بيروت، تعمّ مظاهر الفوضى، مئات السيارات مركونة على جانبي الطريق، تضيق معها الشوارع الرئيسيّة، وتخلق زحمة سير خانقة على مدار ساعات النهار. تزيد المشهد تعقيدًا الدراجاتُ النارية التي تتجول في شوارع العاصمة بأعداد هائلة، وتضرب عرض الحائط بأبسط قواعد السير. يضاف إلى ذلك، تصاعد عمليات سرقة المنازل والشقق التي لجأ قاطنوها إلى إخلائها في ضاحية بيروت ومدينة شويفات، وفق ما قال أحد النازحين من الضاحية لـ "
لبنان 24" لافتًا إلى أنّعصابات السرقة نشطت في الأيام الأخيرة في المنطقة، مستغلّةً خلو الشقق من أصحابها.
النازحون بلا مصدر دخل
فضلًا عن التحديات الأمنّية التي يفرضها النزوح المليوني، هناك تحدّيات ماليّة تفرض نفسها على مجتمع النزوح، خصوصًا أنّ النازحين من البلدات الجنوبيّة فقدوا مصدر رزقهم، فهؤلاء الذين يعتاشون من غلّات المواسم الزراعية والتبغ وتربية الدواجن والنحل وغيرها من المواسم المرتبطة بطبيعة عملهم في القرى والبلدات الريفيّة، باتوا بين ليلة وضحاها بلا عمل وبلا مأوى وبلا مال، وصمودهم في المناطق المضيفة يحتاج إلى دعم مالي بالدرجة الأولى، لتأمين مأكلهم ومشربهم وأدويتهم وطبابتهم، ولاحقًا وسائل التدفئة، لاسيّما وأنّ إقامتهم خارج بلداتهم ومنازلهم قد تطول إلى فصل الشتاء، وربما أبعد، لاسيّما وأنّ إعادة إعمار المباني المدمّرة عملية تستغرق وقتًا طويلًا.
حروب كثيرة مرّت على لبنان، وخلّفت ويلات جسيمة، ولكن هذه الجولة تبدو أشدّ قساوة، لاسيّما وأنّ العدو يغالي في إجرامه متجاوزًا كلّ القواعد الإنسانيّة، يستهدف مدنيين ومسعفين وصحافيين ومستشفيات، ويمضي في إرهابه مدمّرًا الحجر والبشر بأسلحة فتّاكة. كما أنّ عدوانه يأتي في زمن الانهيار المالي، فالدولة غير قادرة على تغطية فاتورة الحرب الباهضة، والمواطنون معظمهم فقراء، والمقتدرون منهم يواجهون مشكلة في السيولة بفعل استمرار احتجاز مدّخراتهم في المصارف، وأمام قتامة المشهديّة، سنكون بمواجهة أزمات إنسانيّة واجتماعيّة واقتصاديّة جديدة.