من الواضح أن مسارعة طهران بنفي أي علاقة لها باستهداف منزل رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو في قيسارية وتحميل "حزب الله" كامل المسؤولية عن هذا الهجوم، مضافًا إليها ما توعد به وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي من أي ردّ من قِبل إسرائيل على إيران سيقابل بردّ أعنف، وأن الاعتداء على أي موقع إيراني هو خطّ أحمر، يُعتبران في القراءة الديبلوماسية محاولة إيرانية لتجنّب أي انخراط مباشر بالحرب، التي يصفها بعض القوى السياسية في لبنان بأنها تدور بين إيران وإسرائيل على أرض لبنان.
وعلى رغم هذه المحاولات من قِبل إيران فإن العالم لا يزال يترقب ضربة إسرائيلية قريبة ضد إيران، في إطار ردها على استهداف محيط منزل نتنياهو أولًا، ومن ثم ردّا على الهجمات الصاروخية مطلع هذا الشهر، بأكثر من 180 صاروخ باليستي من نوع "فاتح". وفيما تُعلن إسرائيل أن ردها سيكون "قويًا"، فإن المنطقة تقف على أعتاب تصعيد واسع، في ظل تعدد الخيارات المطروحة على طاولة ذلك الرد، وتكاد تنحصر في سيناريوهين عامين: الأول أن تتركز الضربات في إطار الأهداف الإسرائيلية من الحرب، وخاصة تجاه ما يرتبط بـ "محور المقاومة" وركائز "وحدة الساحات"، إذ يُعتبر هذا التقويض هدفاً إسرائيلياً واضحاً في الحرب الحالية، بعدما انتقلت الحرب من قطاع غزة نحو لبنان، ويُرجح أن يتوسع، وذلك بهدف تقويض قدرة طهران على مُمارسة الحرب بالوكالة، وتحجيم دورها إلى داخل حدودها.
أمّا الخيار الثاني فيقوم على استغلال إسرائيل اللحظة لتوجيه ضربات حاسمة ضد المشاريع الإيرانية الكُبرى، لا سيما البرنامج النووي، أو القيادة السياسية، أو العسكرية، أو توجيه ضربات على مؤسسات الصناعة العسكرية والدفاعية الإيرانية، والتي تلعب دوراً مهما في تزويد وكلاء إيران بالمسيرات والصواريخ الباليستية. فهذا الخيار يقع ضمن الأهداف العسكرية، ومن شأنه أن يحد من قدرات إيران على تزويد وكلائها بهذه الوسائل القتالية.
ومن المستبعد أن تلجأ تل أبيب إلى توجيه ضربة إلى المنشآت النووية الإيرانية، على رغم أنها تُعتبر هدفاً لإسرائيل منذ عقود، التي عارضت الاتفاقية النووية عام 2015، ولجأت إلى العمليات الاستخباراتية والسرية لعرقلة تطوره. وسبب هذا الاستبعاد أن واشنطن تعارض قيام إسرائيل بهذه المغامرة غير المحسوبة نتائجها. كذلك فإن التلويح باستهداف مصافي النفط في إيران، يلقى مُعارضة أميركية واسعة، خاصة من جهة "الصدمة البترولية" التي ستنتج عنها، والاضطراب اللاحق لها في الأسواق والأسعار، والتي قد تمتد انعكاساتها على السوق الأميركي، ولذلك تداعيات محلية كبيرة قُبيل الانتخابات الرئاسية.
وعليه، فإن لا خيار أمام القيادة العسكرية في تل أبيب سوى توجيه ضربة ضد مراكز القيادة السياسية والعسكرية؛ وتحديداً ضد مؤسسة المرشد العام والحرس الثوري والاستخبارات، وما يجعل هذا الخيار واردًا هو أن إيران أعلنت بعد اغتيال السيد حسن نصرالله عن نقل المُرشد الأعلى إلى مكان آمن.
ولأن إسرائيل تبدو مترددة أمام الخيارات المتاحة أمامها، والتي تبدو نتائج أحلاها مرًّة، فإن التبريرات المعطاة لتأخير عملية الردّ تبدو مبررة، خصوصًا أن كلا السيناريوهين وما فيهما من خيارات متاحة وممكنة تدخل في سياق السياسة التي تتبعها تل أبيب من خلال حروبها المتنقلة. فالخيار يتعلق بتوجيه ضربة موجعة ضد السياسة الخارجية الإيرانية. أما الثاني فيرتبط بطبيعة النظام السياسي نفسه.
فالمراقبون يؤكدون أن إسرائيل قد اتخذت القرار النهائي في شأن أهداف ومواقع هجماتها. وقد جاء هذا القرار متزامنًا مع إعلان البنتاغون الأميركي نشر منظومة "ثاد" الدفاعية مع طواقم أميركية لتشغيل تلك المنظومة، ومع اقتراب حاملة الطائرات الأميركية "يو أس أس هاري ترومان" من الوصول إلى شواطئ شرق المتوسط. وهذا ما يدعو هؤلاء المراقبين إلى توقع أن تأتي الهجمات المرتقبة "قوية"، مع توقع أن يكون الردّ الإيراني بنفس المستوى. ومن المُرجح أيضًا أن يأتي الهجوم الإسرائيلي مُركبا اومُعقدًا، وباستخدام مُتعدد للوسائل القتالية والهجمات الإلكترونية والعمليات الاستخباراتية، وبشكل يُصعب على إيران دعم وكلائها من جهة، ويُهدد النظام السياسي نفسه، ويُحدث أضراراً استراتيجية في قطاعات عدة وبشكل يستدعي من طهران وقتاً لمعالجتها وتفادي تداعياتها. ومن المُرجح ألا تقع كل تلك الهجمات في وقت واحد، بل أن تأخذ طابعًا تسلسليًا ومتدرجًا، لإشغال إيران من جهة، وكشف ثغراتها من جهة أخرى، وبما يمنح إسرائيل مسألة تقدير تصعيد ضرباتها من عدمه.
إلا أن كل هذه السيناريوهات تبقى مجرد أفكار ما لم تقترن بآلية تنفيذية، التي تبقى ظروفها غير واضحة، مع استمرار الحرب التي تشنّها إسرائيل على لبنان بالتوازي مع القصف المتمادي على قطاع غزة.