تُعد التأثيرات الصحية العقلية من أخطر عواقب الحروب على السكان المدنيين وعلى الفريقين المشاركين في طرفي النزاع. بالنسبة للبعض قد يكون اللبنانيون أكثر مرونة وقدرة على تحمل الظروف الصعبة، فيما يعتبر آخرون أن كل الأحداث والحروب التي مر بها اللبناني جعلته أكثر هشاشة من الناحية النفسية. وما يزيد الوضع سوءاً بالفعل أن اللبناني مر بالكثير من الحروب وظروف عدم الاستقرار في مراحل سابقة، وقد بقيت مخزنة في ذاكرته بشكل تؤثر على السلام الداخلي لديه.
تُعرَّف الحرب النفسية بأنها ممارسة التأثير النفسي بغرض تقوية الروح المعنوية لشعب الدولة وتدعيمها في مقابل تحطيم الروح المعنوية لطرف الأخر، بحيث يفقد الثقة ويتخلى عن الأمل ويتملّكه الخوف. أسباب تفشي هذه الظاهرة بهذه الأعداد الكبيرة تنبع من كون "لبنان دولة صغيرة"، وأن من لم تطله أجواء الحرب بشكل مباشر تجمعه صلة بمن مسته الحرب، بالإضافة الى أجواء الحزن الجماعية، والعيش مع هاجس أن تهديداً ما سوف يقع في لحظة ما. أمر آخر يزيد الأمور تعقيدًا، وهو أنّ العدوّ يجيد اللعب على الوتّر النفسيّ إن كان عبر التهديدات المتواصلة أو عبر الاتّصالات الهاتفيّة التي يتلقّاها العديد من الناس.
الحرب النفسية باتت عنوانا رئيسيا في الحرب الدائرة بين إسرائيل وحزب الله.قال نابليون بونابرت إن "حرب العقول أقوى من حروب الأسلحة، إذ إن هناك قوتين فقط في العالم: العقل والسيف. وفي المدى الطويل، العقل دائماً ما ينتصر على السيف".
بدورها، قالت المعالجة النفسية سميرة المعوش أن "للحروب تأثيرا كارثيا على الصحة، فقد أظهرت الدراسات أن حالات الصراع تسبب المزيد من الوفيات والعجز أكثر من أي مرض رئيسي. تدمر الحرب المجتمعات والأسر، وغالباً ما تعطل التنمية الاجتماعية ومع انتهاء الحرب تنفتح أبواب جحيم آخر يعيشه الناجون من الموت بسبب الجروح العميقة في نفوسهم وأجسادهم التي لا يمكن التخلص منها بسهولة، حيث يصنف استرجاع أصوات القنابل والصواريخ وصور أشلاء الجثث في مخيلة الكبار والصغار من أقوى الصدمات، التي لها تبعات نفسية قاسية. وإن مَن يعايشون الحرب يعانون حالة ما بعد الصدمة التي يسترجع الإنسان فيها الأحداث المؤلمة، ويعاني كوابيس ليلية، ويحاول كذلك تجنب أي صورة أو فكرة أو شيء يذكره بالحدث.وتشير إلى أن أعراض ما بعد الصدمة أصبحت شائعة، حتى لدى الذين غادروا البلاد حيث حملوا معهم أوجاعهم، ومشاعر الرعب، والخوف، وعدم الاستقرار".
وقالت المعوش إن لبنان يشهد حرباً نفسية إسرائيلية مستمرة منذ ما قبل أحداث 7 تشرين الأول، وهناك حالة إقناع اللبنانيين بأن لا جدوى في المقاومة التي تجرّ لبنان إلى الحرب والدمار وإضعاف الروح المعنوية العالية وخلق جوٍّ عام من النزاع الداخلي في لبنان، وإحداث فتنة بين الطوائف والمجموعات اللبنانية.
وأكدت أن أعداد الأشخاص الذين يعانون من اكتئاب وشعور بالصدمة والقلق ارتفاع، يقابله إقبال كبير على تناول الأدوية التي تساعد على النوم والمهدئات، مع تكرار التعرض لكوابيس وأحلام تتكرر فيها مشاهد مثل الوجود في نفق مظلم وضيّق، أو سيارات عسكرية مصفحة يعتليها مسلحون وملثمون.
وأشارت الى أن "الأطفال لا يجيدون التعبير بسلاسة عن درجة تأقلمهم مع الوضع القائم، لكنهم حينما تسألهم كيف تركوا بيوتهم، يخبرونك عن أصوات الانفجارات العالية والقصف الذي كانوا يسمعونه، عن البيوت التي تهدّمت، عن خسائر ذويهم. والنساء تتعرض بشكل مزداد للعواقب النفسية للحرب، هناك أدلة على وجود علاقة عالية بين محنة الأمهات والأطفال في حالة الحرب. ومن المعروف أن اكتئاب الأمهات في فترة ما قبل الولادة وما بعدها يتنبأ بضعف النمو في عينة مجتمعية من الرضع ويكون تأثيرها على الأطفال مرهونا بردات فعل الأهل على سماع خرق جدار صوت الذي تفتعله الطائرات الحربية الإسرائيلية".
وقالت المعوش أنه لا يمكن رصد التداعيات النفسيّة بسهولة، خصوصًا في أثناء الحرب التي لا يعلو صوتَها صوتٌ، حيث يحاول الناس إظهار تماسكهم وصلابتهم النفسيّة ما أمكن لهم. يساهم في ذلك ضعف الثقافة المجتمعيّة في ما يخصّ الصحّة النفسيّة، حيث تتغلّب العادات والتقاليد والتربية النمطيّة على ذلك، وتعتبرها نقيصة لطالبيها.
وتخلص إلى "أنّ التعافي يستغرق وقتًا، ويعتمد على الفرد وظروفه الخاصّة. وهنا تبرُز أهمّيّة الدعم النفسيّ والاجتماعيّ في تسريع عمليّة التعافي وتحفيز النموّ النفسيّ الإيجابيّ والتكيّف الفعّال مع التحدّيات الناتجة عن الأحداث الصادمة. ومن جهة أخرى من المهم الحفاظ على العلاقات مع المقربين ونظام الدعم. هذا، إضافة إلى الرعاية بالذات من خلال ممارسة الرياضة أو أي أنشطة مفضلة. ويمكن الاطلاع على الأخبار والمستجدات لكن ليس بشكل مفرط يتحول إلى هاجس. أما التحول إلى المبالغة في التفكير فقد يستدعي اللجوء إلى المعالجة النفسية. ويلعب الدعم الاجتماعي دوراً رئيسياً في تعزيز الصحة النفسية والاجتماعية للعائلات في المناطق المتضررة من الحرب.
تعبّر رشا الشل إحدى النازحات من الهرمل إلى بلدة برجا عن حالها، إذ يبدو الحديث عن التداعيات النفسيّة أمرًا غير مكتمل النضوج، فالناس عادةً يتعاملون مع مشاعر الخوف والعجز بالتهرّب من آثارها. مشيرة الى أن جوارح الإنسان حساسة، وخاصة عند سماع أصوات قوية بشكل مفاجئ، ما يتسبب بشعور الصدمة.
وتقول "ما يجري حرب نفسية قاسية علينا، فكل يوم نقرأ ونسمع أن الرد الإسرائيلي على ايران خلال ساعات. والحرب جحيم لها تأثير لا يُشفى أبداً على الضحايا من المدنيين والأشخاص الذين يشاركون فيه ولقد نشأ اليوم جيل لا يعرف سوى الحرب.
وأشارت الى أن "عند سماع صوت الطائرات يبدأ ابن خالتي بالبكاء أحياناً، ويقول جاء الإسرائيليون حتى إنه في بعض المرات يركض ليختبئ تحت سريره ولا يخرج . وجدار الصوت يذكر بقلة الأمان التي عشناها فترة طويلة من حياتنا، وكأنه يأتي ليزعج الناس ويجعلها تخاف وتفكر ما إذا كانت قادرة على البقاء في لبنان أو المغادرة".
وقالت إن تردي الوضع النفسي والاضطرابات العصبية، التي يعاني السكان منها على نحو واضح في مختلف المدن، إنما تعكس خطورة استمرار الصراع وتردي البيئة الاجتماعية والاقتصادية والمادية التي يعيش فيها الناس بشكل عام.