منذ قرّرت إسرائيل تحويل "جبهة الإسناد" التي فتحها "حزب الله" دعمًا للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إلى حرب دمويّة ووحشيّة، اقتربت حصيلتها حتى الآن من ثلاثة آلاف شهيد، فإنّ "مفاجآتها" تبقى مستمرّة، حيث كانت باكورتها عملية البيجر غير المسبوقة، التي استهدفت من خلالها الآلاف في دقيقة واحدة، واستكملتها بتفجير أجهزة الاتصال، وصولاً إلى "صدمة" اغتيال الأمين العام السابق لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله.
وإذا كان اغتيال السيد نصر الله شكّل "نقطة مفصلية" في الصراع، الذي تحوّل بعد هذه الجريمة إلى ما يشبه نمط "الحرب التقليدية"، ولو بأسلحة قد يكون بعضها غير تقليديّ، فإنّ "المفاجآت" الإسرائيلية بقيت حاضرة، وكان آخرها "الإنزال" المباغت في منطقة البترون، البعيدة عن نطاق العمليات العسكرية، حيث أفيد عن دخول فرقة كوماندوس كاملة إلى المنطقة، لتختطف أحد الشبّان من غرفة نومه، بعد انتحال صفة "أمن الدولة" أمام الجيران.
وفي حين أحاط الغموض بهذه الحادثة في الشكل والمضمون، وسط تكهّنات وسيناريوهات ضبابية حول مآلاتها وتبعاتها، وأسباب لجوء العدو إلى هذا الأسلوب من الإنزالات، بعدما كان يتحصّن بالاغتيالات العابرة للمناطق، والتي وصلت قبل ذلك إلى أماكن قريبة من البترون، فإنّ المخاوف تصاعدت من أن يكون ما حصل مقدّمة لفصل جديد في سياق الحرب الاستخباراتية والنفسية، تصبح معه مثل هذه الحوادث من الأمور "الروتينية".
بحثًا عن معلومات؟!
صحيح أنّ تضاربًا في المعلومات سُجّل حول هوية وارتباطات الشاب المُستهدَف بإنزال البترون، بين الرواية الإسرائيلية التي صوّرته على أنّه قيادي مهمّ في "حزب الله"، في سبيل تبرير قيامها بمثل هذه العملية الدقيقة لاختطافه، وبين رواية أخرى نفت أن يكون منتميًا إلى الحزب أساسًا، باعتبار أنّه قبطان بحري، وكان يخضع لدورة قبطان في مدرسة العلوم البحرية في البترون، وبينهما روايات اختلطت تفاصيلها وتفاوتت دلالاتها.
لكنّ الصحيح الذي يتفق عليه الجميع أنّ الحادثة شكّلت بحدّ ذاتها سابقة خطيرة في الصراع الحالي، ولو أنّها لم تكن الأولى من نوعها بالمُطلَق، باعتبار أنّ إسرائيل لجأت إلى هذا الأسلوب في حروبها السابقة، بما في ذلك حرب تموز 2006، وهو ما دفع كثيرين إلى التساؤل عن السبب الذي قد يدفعها إلى مثل هذا الأمر الذي ينطوي على خطورة استثنائية، ولا سيما في ظلّ الاغتيالات المتنقلة بين المناطق التي تقوم بها.
هنا ثمّة فرضية تتردّد على ألسنة المراقبين، أنّ عملية الإنزال هذه شكّلت "ضرورة استخباراتية" لإسرائيل في مكانٍ ما، فهي على الأرجح أرادت من استهدفته حيًا، بحثًا عن معلومات تريدها، ربما للكشف عن معطيات حول طريقة حصول "حزب الله" على ترسانته من الأسلحة عبر البحر، وسط حديث عن أنّ التحقيقات التي كشف الإعلام الإسرائيلي أنّها بدأت معها منذ لحظة اختطافه، إلى أشخاص آخرين قد تتكرر عمليات الإنزال لأسرهم.
حرب استخباراتية.. ونفسية
استنادًا إلى ما تقدّم، يعتبر الإنزال البحري غير المسبوق في منطقة البترون الساحلية، فصلاً آخر من فصول الحرب الاستخباراتية بين "حزب الله" وإسرائيل، سواء لجهة القدرة على تنفيذ مثل هذه العملية الدقيقة والاستثنائية، ومستوى التعاون الذي قد تكون إسرائيل حصلت عليه من هنا أو هناك، وسواء لجهة بقاء مثل هذه العملية "مجهولة" لساعات طويلة، قبل الكشف عنها بعد ظهر السبت، في حين أنّها وقعت وفق المعلومات فجر الجمعة.
لكنّ الأكيد، وفق ما يقول العارفون، أنّ العنصر "الاستخباراتي" لم يكن وحده حاضرًا خلف هذه العملية، التي يعدّها المتابعون جزءًا من الحرب النفسية التي لا تنتهي فصولها أيضًا، والتي تكاد توازي بأهميتها في الصراع الحالي العمليات العسكرية، على شدّتها، حيث يشيرون إلى أنّ العدو أراد أن يسجّل بهذه العملية هدفًا آخر في المرمى، بالتوازي مع الحديث عن مفاوضات وقف إطلاق النار، للتأكيد أنّه يمتلك ما يمتلك من أوراق القوة.
وعلى خطّ الحرب النفسية أيضًا، ثمّة من يقول إنّ أهمية العملية تكمن في "الصورة" التي تمّ التقاطها لقوة الكوماندوس الإسرائيلية في منطقة البترون، والتي تمّ تداولها على نطاق واسع، هي صورة يحاول الإسرائيليون ترويجها في المناطق الجنوبية التي يحاولون التوغل فيها ويواجهون فيها مقاومة شرسة، علمًا أنّ هناك من رأى في تعمّد تسريب هذه الصور "محاولة تعويض" ليس إلا، من باب تسجيل النقاط أيضًا وأيضًا.
بمعزل عن خلفيات العملية وأهدافها، وبغضّ النظر عن أبعادها الاستخباراتية والنفسية التي لا يمكن تجاوزها، فإنّ الأكيد أنّ العملية "خطيرة" بطبيعتها، خصوصًا إذا ما صحّ الاعتقاد بأنّها قد تمهّد لعمليات مشابهة عديدة في مناطق مختلفة، قد يجد فيها الإسرائيلي ضالته، نفسيًا واستخباراتيًا، ولا سيما أنّها محدّدة ومحدودة، وهو أمر إن حصل، يعني أنّ إسرائيل مستمرّة بتجاوز كل الخطوط الحمراء، وسط صمتٍ دولي قد يصحّ وصفه بالمريب.