في حرب يبدو أن لا خطوط حمراء فيها، طالت الغارات الإسرائيلية على لبنان، مناطق قريبة جداً من مواقع لا تشكل قيمة تراثية وتاريخية وطنية فحسب، بل وأيضا ثروة تراثية عالمية.
بعلبك
مساء الأربعاء، قصف الجيش الإسرائيلي منزلاً عثمانياً معروفاً باسم "مبنى المنشية"، يقع على مسافة أمتار فقط من معبد جوبيتر في القلعة الأثرية في بعلبك.
وعلى إثره، طلب وزير الثقافة اللبناني محمد المرتضى من اليونسكو "التدخل بشكل عاجل للحفاظ على إرث لبنان الثاريخي".
وقد أثار ما حصل قلقاً كبيراً، خشية على ذلك الموقع المُدرج على قائمة مواقع التراث العالمي، لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" منذ عام 1984.
منظمة "اليونسكو" قالت لـ"BBC" إنها تُذَكِّر جميع الدول الأطراف بواجباتها، بحسب اتفاقية اليونسكو لحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي، التي أُقرّت عام 1972، وكذلك بموجب اتفاقية لاهاي عام 1954 الخاصة بحماية الملكية الثقافية في الصراعات المسلحة.
لكن أُعلن لاحقا أن اللجنة المعنية بحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح في "اليونسكو"، ستعقد اجتماعاً في الثامن عشر من الشهر الجاري، بشأن الوضع في لبنان.
ووصف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، استهداف المواقع الأثرية بأنه "جريمة إضافية ضد الإنسانية، ينبغي التصدي لها ووقفها".
وكان لبنان قد وضع ما يُسمّى "الدرع الأزرق"، على المواقع التراثية والأثرية، بهدف حمايتها في زمن الحرب. ويشير هذا الدرع المتعارف عليه دولياً، والذي تُحاط به الجيوش علماً، إلى الطابع التراثي أو التاريخي للموقع، بما يفرض على الجيوش المتحاربة، الحفاظ عليه وعدم استهدافه.
وكانت لجنة "مهرجانات بعلبك"، قد وجّهت رسالة مفتوحة إلى المنظمات الدولية ورؤساء البعثات الدبلوماسية في لبنان، والمختصين في حماية التراث، لحماية المدينة ومواقعها الأثرية.
وجاء في الرسالة أن "الاعتداءات طالت محيط القلعة الأثرية، ما أسفر عن أضرار مباشرة لأحد معالمها المعروف بـ "ثكنة غورو"، بالإضافة إلى الأضرار غير المباشرة، الناتجة عن الدخان الأسود والانفجارات التي أثّرت على الأحجار القديمة، وتسببت في تصدعات في الهياكل الهشة".
وذكرت اللجنة أن هذه الاعتداءات تمثل "انتهاكاً صارخاً للقوانين والأعراف الدولية".
وفي هذا الإطار، تقول عالمة الآثار اللبنانية ورئيسة جمعية "بلادي" جوان بجّالي، إنه حتى اللحظة لم تقصف إسرائيل أي موقع أثري بشكل مباشر.
بجالي أشارت إلى أنه "عندما يكون القصف قريباً جداً من المواقع الأثرية، يكون هناك تهديد لهذه المواقع بسبب اهتزاز الأرض، وإمكانية تأثير ذلك على متانة البناء".
وتضيف بجّالي: "معروف أن البناء الروماني مضاد للزلازل، ولكنه ليس مضادا لسلاح الجو الإسرائيلي"، بحسب تعبيرها.
صور
كذلك، فإن صُور، التي كانت من أهم المدن الفينيقية، تضم مواقع أثرية متعددة، يعود معظمها إلى الحقبة الرومانية. هنا، تقول بجّالي: " في صُور تمّ استهداف المنطقة المجاورة للموقع الأثري، التي هي أصلا مُصنّفة أثرية ومحمية، وهي معروفة عند علماء الآثار، بأنها تضمّ آثارا تحت الأرض".
الذاكرة الجماعية
الأمر لا يتعلّق بمواقع التراث العالمي فحسب، إذ أن هناك مواقع تاريخية كثيرة ذات أهمية بارزة في التراث اللبناني، تعرضت للقصف.
من بين تلك المواقع، سوق النبطية التجاري الشهير، حيث كانت تُفرش "بسطات" الباعة أمام المباني القديمة، التي تحتفظ بمعالم عمرانية تراثية.
وأحدثت الغارات الإسرائيلية حرائق ودماراً كبيراً في السوق، الذي ارتبط بهوية المدينة الجنوبية، وتاريخها ومعالمها.
وفي وقت تقول فيه إسرائيل إنها تستهدف مواقع وبنى تحتية تابعة لحزب الله، تشمل عملياتها العسكرية تفجيرات متزامنة لمجموعة كبيرة من الأبنية والأحياء في بلدات متعددة في جنوب لبنان، ما أثار صدمة كبيرة من هول الدمار الحاصل.
كذلك، فإنّ اليونسكو أعلنت من جانبها، أنها تعكف على مراقبة المواقع الأثرية، من خلال تحليل صور الأقمار الصناعية التابعة لمراكز الأمم المتحدة.
وتشير جوان بجّالي إلى أن "استهداف المواقع الأثرية في حالة الحروب، هو استهداف لتاريخ الشعوب، وهو ما يعني حرب إبادة"، على حد قولها.
ولا تخلو قائمة الأماكن التي دمرها القصف من المواقع الدينية المهمة، ومن أبرز ما تمّ رصده في هذا الصدد، "مقام بنيامين" الذي دمّره الجيش الإسرائيلي في قرية محيبيب الحدودية.
ويعود تاريخ هذا المقام، بحسب "الجمعية العاملية لإحياء التراث في لبنان"، إلى أكثر من 2000 عام، وهو مزار ديني ومقام تراثي وتاريخي في منطقة جبل عامل.
كذلك، قصف الجيش الإسرائيلي ودمّر مساجد عدة، مثل مساجد يارين وكفرتبنيت وبليدا، فضلا عن قصفه لكنيسة دردغيّا.
وحذرت المنسقة الخاصة للأمم المتحدة من أجل لبنان جينين هينيس-بلاسخارت، في الأول من تشرين الثاني الحالي، من أن الهجمات الإسرائيلية تُعرِّض مواقع عريقة لخطر جسيم، وأضافت: "تواجه مدن فينيقية قديمة ضاربة في التاريخ خطراً عميقاً من أن تُدمّر. لا يجب أن يصبح التراث الثقافي ضحية أخرى لهذا الصراع المدمّر".
ويحول استمرار القصف، دون أن تتمكن السلطات اللبنانية من تقييم الأضرار التي لحقت بالأماكن التراثية في البلاد، أو معرفة ما إذا ما كان هناك، ما يُمكن إعادة ترميمه منها وإنقاذه.
لكن الدولة اللبنانية والجمعيات المعنية بالتراث في البلاد، تتولى توثيق تلك الأضرار حاليا، من خلال الصور الجوية التي تُلتقط للدمار الناجم عن الحرب.
كذلك، فإن اليونسكو أعلنت من جانبها، أنها تعكف على مراقبة المواقع الأثرية، من خلال تحليل صور الأقمار الصناعية التابعة لمراكز الأمم المتحدة.
وأشار الجيش الإسرائيلي إلى أن الهجوم على محيبيب كان ضربة للبنى التحتية لحزب الله في إطار ما يقول إنه حماية للسكان الإسرائيلين الذين هم تحت تهديد مستمر من قبل حزب الله، وأضاف: "الجيش الإسرائيلي على علم بوجود مواقع حساسة ويأخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار، وهو يشكل جزءاً أساسياً من التخطيط للضربات بهدف تقليص الأضرار على البنى التحتية المدنية بقدر الإمكان بحسب القانون الدولي. كل هجوم يشكل خطرا على هيكل حساس يقيّم بعناية ويخضع لعملية موافقة صارمة".
وتشير جوان بجّالي إلى أن "استهداف المواقع الأثرية في حالة الحروب، هو استهداف لتاريخ الشعوب، وهو ما يعني حرب إبادة" على حد قولها. (BBC)