في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على لبنان وتفاقم الأزمات الإنسانية والاقتصادية، تتزايد التحديات المرتبطة بعمليات الإعمار وإعادة بناء ما دُمّر من منشآت سكنية وتجارية.
وأشارت الأمم المتحدة إلى أن أوضاع النازحين في لبنان باتت "مزرية"، مطالبة بتوسيع الخدمات لتلبية احتياجاتهم المتزايدة، في حين أن أعداد النازحين تتجاوز مليوناً ومائتي ألف شخص، ومن المتوقع أن تتفاقم مع استمرار العدوان.
وتقدّر الخسائر الحالية للاقتصاد اللبناني بأكثر من 20 مليار دولار، وفقًا لوزير الاقتصاد أمين سلام، الذي أوضح أن إعادة الإعمار قد تتطلب ما بين 20 و30 مليار دولار، بينما تتكبد قطاعات حيوية خسائر جسيمة، منها مؤسسات صحية وتعليمية دُمرت بالكامل، فيما خطة الطوارئ تحتاج إلى 250 مليون دولار شهرياً.
تدمير واسع في مختلف القطاعات
يقول عضو مجموعة العمل المستقل من أجل لبنان (غير حكومية)، الخبير الاقتصادي كنج حمادة، في حديث خاص لـ "العربي الجديد"، إنه لا يمكن تحديد أرقام نهائية لحجم الأضرار الناتجة عن الحرب الحالية نظراً لاستمرارها، إلا أنه يقدر الخسائر وفقاً لمعلومات أولية بحوالى 20 مليار دولار.
ويشير إلى "صعوبة تقدير الأضرار لكل قطاع على حدة، فعلى سبيل المثال، توقف حوالي 8 مستشفيات عن العمل في الجنوب، لكن لا يُعرف حتى الآن إن كانت تعطلت نتيجة القصف أو بسبب عدم القدرة على الوصول إليها. كما أن القطاع التعليمي يعاني من أضرار بالغة".
ويوضح حمادة أن الدمار في البنية التحتية الرسمية حتى اللحظة لم يصل إلى مستويات حرب 2006، إذ لم تتضرر الجسور أو القطاع الكهربائي أو المرافق الرئيسية كمطار بيروت، وهذا يُعدّ إيجابياً إلى حد ما، نظراً لأن تكاليف إصلاح هذه المنشآت مرتفعة وتستغرق وقتاً طويلاً، لكنه يشير أيضاً إلى أن الضرر كان أشد وقعاً على المؤسسات الصغيرة والقطاعات الإنتاجية والتجارية التي تخلق فرص عمل كثيرة، على عكس ما كان عليه الوضع في عام 2006، إذ لم يتضرر حينها مثل هذا العدد الكبير من المؤسسات والمساكن.
يلفت حمادة إلى أنه "حتى الآن لم يتم حصر الأضرار بشكل دقيق، ولا تتوافر أي أرقام دقيقة حول حجم الخسائر. فالجنوب شهد تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الماضية، إذ أُنشئت مؤسسات تجارية وزراعية وصناعية، كما ازدهرت السياحة والنمو الاقتصادي في تلك المناطق، لكن هذه الحركة تضررت بشدة نتيجة الحرب، ما يصعب من إعادة إحيائها، في ظل عدم وضوح ظروف عودة السكان إلى مناطقهم المتضررة".
ويشير حمادة إلى أن تكلفة إعادة الإعمار ستكون مرتفعة، خاصة أن بعض القرى قد دُمّرت بالكامل على الصعيدين السكني والإنتاجي، فقد تراجعت بعض المناطق إلى الوراء نحو 15 عاما من ناحية النمو الاقتصادي.
وتعدّ إعادة إعمار المنازل مرحلة أولى، بينما تعدّ إعادة تحريك الاقتصاد المحلي مرحلة أخرى، ولا يمكن تحديد تكلفة إعادة الإعمار بدقة، نظراً لغياب الأرقام الرسمية حول الحركة الاقتصادية في المناطق المتضررة قبل الحرب.
في ما يتعلق بتمويل الإعمار، يوضح حمادة أن التمويل سيأتي من مصادر متنوعة، ولكل مصدر شروطه وآلياته، فعلى سبيل المثال، قد يقدم البنك الدولي قروضاً أو هبات لإعادة إعمار المرفأ، لكنه لا يقدم عادةً تمويلاً لإعادة بناء الوحدات السكنية.
وأشار إلى أن الدعم الغربي قد يواجه عراقيل سياسية، إذ يمتنع بعض الممولين من الدول الغربية، مثل ألمانيا والولايات المتحدة، عن تمويل مشاريع في الجنوب خشية من ارتباطها بحزب الله، إلا إذا قُدمت تنازلات سياسية تتيح لهم التمويل بشروط معينة.
ويضيف حمادة أن "إيران وحزب الله أعادا إعمار جزء كبير من المناطق الجنوبية بعد حرب 2006، إذ كانت مساهمة إيران تبلغ حوالي 80% من التمويل والبقية من المغتربين الشيعة".
ويؤكد أن النازحين سيواجهون تحديات كبيرة في حال تأخر عمليات إعادة الإعمار، إذ إنهم فقدوا كل ما يملكون من مساكن وأعمال تجارية، ولا يمكن الاعتماد على التمويل البديل، لأنه يغطي جزءاً بسيطاً من الاحتياجات الأساسية، لافتاً إلى أن عودة الحياة إلى طبيعتها قد تكون صعبة لكنها ليست مستحيلة.
تحديات سياسية وتمويلية
ومع تصنيف لبنان على اللائحة الرمادية، تبدو قدرته على استقطاب التمويل الخارجي محدودة إذا لم يلتزم بشروط صارمة تتعلق بالشفافية ومحاربة الفساد.
وفي هذا الإطار، تفيد رئيسة معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، ونائبة رئيس لجنة الأمم المتحدة للخدمة العامة، لمياء المبيض بساط، بأن التفكير في "مرحلة ما بعد انتهاء العدوان" في لبنان اليوم يبدو أمراً صعباً بسبب ضغط المستجدات والمآسي اليومية، لكن غياب أي نقاش حول خطة "ما بعد الحرب" على المستويات المحلية والاقليمية والدولية هو أمر يقلق الخبراء والمتخصصين، لأن تمويل إعادة الإعمار بعد الحرب يحتاج لخطة مسبقة.
وتضيف بساط أن مواقف الدول المعنية بالحرب القائمة في المنطقة أو بوضع لبنان غير واضحة، ولا خطط أوّلية لمساعدة لبنان في الخروج من هذه الحرب المدمرة.
كذلك، تشير بساط إلى أنه "حتى اليوم، لا وثيقة تكون بمثابة خريطة طريق، تستند إلى تقييم أوّلي للأضرار، وتضع الأولويّات لمرحلة ما بعد انتهاء العمليات العسكرية، وعلى الصعد المختلفة: البنى التحتيّة، الاتصالات، إسكان العائدين، تنظيف الأراضي من المخلّفات، المساندة الاجتماعية، وغيرها".
تقديرات الأضرار ليست نهائية
من جانب ثانٍ، صرّحت الخبيرة الاقتصادية فيوليت بلعة، أن تقديرات الأضرار، المقدرة بين 15 و20 مليار دولار، ليست نهائية، إذ يعتمد حجم الخسائر على مدة الحرب، فكلما استمرت الحرب لأكثر من ستة أشهر، قد تتضاعف الخسائر بالمليارات.
وذكرت أن هذه الأرقام تقريبية، نظراً لصعوبة إجراء مسح للأضرار أو تحديد الخسائر في ظل القصف المستمر، مشيرة إلى أن الأضرار التي لحقت بالناتج المحلي تفوق التقديرات الحالية من الجهات المحلية والدولية.
وتضيف أن لبنان عاجز كلياً عن تمويل عملية إعادة الإعمار، سواء في منطقة معينة أو في كل المناطق المتضررة من العدوان الإسرائيلي، وتعدّ عملية إزالة الركام مكلفة جداً، ناهيك عن تكاليف إعادة البناء التي تصبح أعلى عند مراعاة معايير معينة لتعزيز البناء.
وتشير بلعة إلى أن "الوضع المالي والاقتصادي والاجتماعي في لبنان المتأزمة بدأ منذ عام 2019، ولم يكن لدى لبنان خطة للتعافي بسبب الخلافات السياسية. لذلك، بات لبنان مضطراً للتعاون مع المنظمات الدولية التي قد تساعد في عملية إعادة الإعمار، علماً أن مؤتمر باريس أسهم في الحصول على وعود بمليار دولار"، مشيرة إلى أن هذه المليارات مقسّمة بين مساعدات للجيش والنازحين، مما يفرض على الحكومة اللبنانية إطلاق حملات لجمع التمويل لإعادة إعمار لبنان.
وتؤكد بلعة ضرورة القيام بجولات على الدول العربية والغربية، وأهمية دور وزير الخارجية في فتح قنوات اتصال مع المغتربين اللبنانيين للمساعدة. (العربي الجديد)