أنهى الوسيط الأميركي أموس هوكشتاين زيارته إلى بيروت وتل أبيب، وعاد مساء امس إلى واشنطن، حاملا لإدارته ملاحظات لبنان وإسرائيل والتعديلات التي أدخلت على الاقتراح الاميركي. واشار موقع اكسيوس إلى أن لا توقعات بالإعلان عن أي اتفاق لوقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية قبل الأسبوع المقبل،مع تأكيد مصادر رسمية أن لبنان المتمسك بانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان خلال الأسبوع الأول من وقف إطلاق النار، يرفض أي صيغة يمكنها أن تنتقض من سيادته على أرضه ومرافقه ومعابره، كما يرفض تعزيز أو توسيع صلاحيات لجنة مراقبة آلية تطبيق القرار 1701، لكن يبقى التفاؤل اللبناني حذرا نظرا للتسويف الإسرائيلي، فرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يراهن على الوقت الفاصل عن 20 كانون الثاني لتحسين شروط ما يسمى بالاتفاق.
الى ذلك، لم تتغير المعادلة بعد بين حزب الله وإسرائيل، فإسرائيل تقصف أينما شاءت ووصلت الى بيروت، ولا يوفر حزب الله هدفاً يستطيع رميه مطلقاً، فمعادلة حيفا-الضاحية سقطت منذ زمن، وقد قُصفت تل أبيب مراراً وتكراراً، كما قُصفت مواقع عدة داخل الكيان.
إن ما يحصل اليوم هو ضمن المتوقع، فالكيان الإسرائيلي دفع بفرقه وقواته الخاصة إلى جنوب لبنان على أمل إسقاط المقاومة وهزمها، خصوصاً بعد اغتيال قادتها. لكن جيش هذا الكيان لم يستطع، بحسب الباحث العسكري والاستراتيجي العميد كلود الحايك، التقدم، كما كانت حكومته تبتغي، فالمقاومة شرسة، تكبده الخسائر وتجبره على الانسحاب والتراجع ولو قام جنوده بتصوير أنفسهم وعملياتهم في أماكن وأنفاق في الداخل، ما جعل الخلاف يستعر بين الجيش وقادته من ناحية، وحكومة نتنياهو من ناحية أخرى، حول جدوى المعارك هذه، والخسائر المؤلمة التي يتكبدها الجيش دون التمكن من تثبيت احتلاله كما يريد. وبالتالي فإن الكيان يستميت لتثبيت جيشه الأمتار القليلة التي نجح باحتلالها، وما زال يحاول التقدم لتقوية موقفه في المفاوضات كما هو متوقع ومعروف. ما يعني أنه لا أحد يعرف ما إذا كان يمكنه التقدم نحو بنت جبيل أو غيرها، أو أنه سيجبر على التراجع كما يفعل كل يوم، فكل هذا مرهون بالمقاومين، وبنجاحهم في الحرب التي ينتهجونها، ولا يجب غض النظر عن الضغط الذي يتعرضون له من حيث فقدانهم الغطاء الجوي، وثقل القذائف التي تمطرهم بها إسرائيل كل يوم... وفعلاً كان الله بعونهم، فهم يسطرون ملاحم بطولية يشهد لها، وتدرس في أرقى المعاهد العسكرية.
أما العوامل السياسية التي بدأت بالبروز مؤخراً، والتي يمكن أن ترخي بثقلها ونتائجها على الوضع الميداني، فتختصر بالاقتراح الأميركي لوقف إطلاق النار، وردود الفعل اللبنانية والإسرائيلية عليه، وما إذا كان سيكتب له النجاح فعلاً أو سيمنى بالفشل.
المعروف، بحسب الحايك، أن الكيان الإسرائيلي بارع في إسقاط المبادرات التي لا تصب بالكامل في مصلحته، لكنه لا يرضخ إلا عندما تبرز قوة يقوم بتقديرها جيداً ويعرف أنها تستطيع إيذاءه، فيفاوض، ويوقع... لكنه يحاول التصعيد قدر الإمكان قبل أن يرضخ، ويحاول كسب أقصى ما يمكن قبل أن يوقع. وهذا ما يحصل الآن، فقد طرح بادئ ذي بدء شروطاً لا يمكن لأية دولة، ولو انها لا تتمتع بذرة من السيادة قبولها، على أمل أن يتمكن من التقدم ميدانياً فيجبر المقاومة ولبنان خلفها على الرضوخ، لكن فشله الميداني أجبر حليفه الأميركي الذي كان يرفض القدوم إلى لبنان أن يبدل رأيه، خصوصاً بعد صدور نتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة، وأن يعود للوساطة طارحاً مقترحات ربما توصل الطرفين إلى اتفاق تسوية، خصوصاً وأنه ينقل عن الرئيس الأميركي المنتخب إرادته بوقف الحرب في المنطقة.
لقد رافق هذا الطرح، كما هو متوقع، تصعيد إسرائيلي ناري عنيف، وقصف جوي متنقل بين بيروت والبقاع والجنوب، لكنه لم يغير شيئا على صعيد المواقف السياسية اللبنانية. وفي دراسة للمقترحات الأميركية، يمكن الحديث بحسب الحايك، عن إيجابيات تتمثل بانتشار الجيش اللبناني على الحدود الجنوبية، وتعزيز انتشار قوة الأمم المتحدة الموقتة في لبنان (يونيفيل)، وحصر الوجود العسكري في المنطقة الحدودية بالجيش والقوة الدولية. وهذا أمر طبيعي، ينجح تماماً إن توقفت إسرائيل عن تنفيذ اعتداءاتها جنوباً. وفي هذا الإطار، فإن الإرادة السياسية الدولية الطيبة والصادقة تغني عن "تأخير" عملية تسليح الجيش للقيام بهذه المهمة، فإن أراد المجتمع الدولي للجيش اللبناني أن ينجح فعلاً فإنه يمكنه النجاح بسلاحه الحالي... خصوصا وأن لا نية للدول الغربية بتسليح الجيش بسلاح أكثر تطوراً من الذي يمتلكه خوفاً من قيامه بأذية إسرائيل، أو وقوع هذه الأسلحة بيد حزب الله، وكأن سلاح حزب الله طوال السنوات الماضية التي كان المجتمع الدولي يرفض خلالها تسليح الجيش، لم يكن يشكل أي خطر على إسرائيل... كما وكأن حزب الله كان بحاجة إلى سلاح الجيش ليزيده على ترسانته.
إذن يمكن للجيش الانتشار وهذا الأمر، وفق الحايك، لا خلاف عليه، ومن الأفضل تسليحه بسلاح نوعي يعطيه الذريعة بتطمين المقاومة لدى الطلب إليها التراجع عن مواقعها الحالية.
لكن هل يمكن تصديق التعهد الإسرائيلي بعدم مهاجمة لبنان؟
تكمن الخطورة، وفق الحايك أنه في ما لو وافق الحزب فعلاً على الانسحاب شمالاً وتسليم مواقعه للجيش، وحصل أي خطأ خلال هذه العملية، فإنه مما لا شك فيه أن إسرائيل ستهاجم، وستنتهز الفرصة لإيقاع أكبر عدد من الخسائر في صفوف المقاومة والجيش، ولن يتمكن أحد من ردعها. وفي هذه الحال سيكون الجيش والقوات الدولية في الوسط هدفاً سهلاً لعربدتها الجوية والمدفعية، ولا يعرف كم يستغرق الأمر للأميركيين أن يتدخلوا وينجحوا في وقف إطلاق النار مجدداً، هذا إذا لم تفشل العملية بأكملها، ويعود الوضع إلى ما كان عليه. وهنا، لا بد من معرفة مدى الإصرار والقدرة الأميركية على منع إسرائيل من التذرع بأية حجة للعودة إلى القتال.
أما عن إعادة ترسيم الحدود البرية بين الدولتين، فقد كان هذا مطلباً لبنانياً دائماً، لكنه كان دائماً يصطدم بالجشع الإسرائيلي لقضم الأمتار والأراضي اللبنانية وضمها إلى احتلاله، كما ورفض الكيان المحتل رفع احتلاله عن الأراضي اللبنانية المحتلة من مزارع شبعا إلى الغجر والقرى السبع... ما يعني أن العملية، كما يقول العميد الحايك، ستكون طويلة جداً، وربما لن يكتب لها النجاح كاملاً فتبقى سبباً للمشاكل وذريعة للمقاومة الشرعية للاحتلال. إنما لا بد من النظر إيجابياً إلى هذا الأمر، فأية استعادة لأية أرض محتلة هي مكسب للبنان.
في التفاصيل الأخرى التي يعرضها الإعلام الإسرائيلي، فتارة يذكر أن الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان سيتم خلال سبعة أيام، وطوراً خلال ستين يوماً، فلماذا هذا التأخير، لم لا تنسحب فوراً، على الأقل لدى بدء انتشار الجيش . فالإبقاء على قوى معادية في الداخل، ولو ليوم واحد، يمكنه تعريض كامل العملية لخطر الفشل.
وهنا يسأل العميد الحايك، عن نزع سلاح كل الجماعات العسكرية غير الرسمية في جنوب لبنان خلال ستين يوماً، فهل يمكن التصديق أن الكيان الإسرائيلي سيكتفي بذلك، وهو يعرف تماماً قدرة المقاومة الصاروخية البعيدة المدى... فهل يكون ذلك فخ آخر يوقع الكيان الإسرائيلي لبنان فيه ؟
وليس بعيدا، فإن الحايك يرى ان البند الأخير في المقترحات الأميركية، والقائل أنه يحق لإسرائيل الدفاع عن نفسها ضد التهديدات الناشئة إذا فشلت الحكومة اللبنانية في إحباط هذا التهديد، بما في ذلك تصنيع وتخزين ونقل الأسلحة الثقيلة والصواريخ والأسلحة المتقدمة الأخرى، هو صيغة مخففة عن الطرح الإسرائيلي المطالب بضمان حركة الحركة العسكرية الإسرائيلية في لبنان، مشددا على أن لبنان لن يوافق على هذا البند بصيغته الحالية، ولا بد من تعديله حفاظاً على السيادة اللبنانية.
وهنا يستعيد الحايك طلبات إسرائيلية لم يأت المقترح الأميركي على ذكرها، وهي مراقبة الحدود والمطار والمرفأ من قبل الأميركيين، وتشكيل لجنة خاصة تديرها الولايات المتحدة لمراقبة انتهاكات الاتفاق، والإشراف على تفكيك البنية التحتية لحزب الله فوق وتحت الأرض، وكأنهم بهذا يحاولون من خلال الضغوط الديبلوماسية الحصول على ما لا يمكنهم الحصول عليه بالقتال.
وخلاصة القول، إن التصعيد العسكري المرافق للحركة الأميركية هو أمر متوقع، لن يؤدي، بحسب الحايك إلى تغيير الموقف اللبناني سواءً أكان الرسمي أو غير الرسمي... ولذلك على الإسرائيليين إظهار النيات الحسنة كما والمطلوب من الأميركيين الضغط على إسرائيل للتوجه باتجاه وقف النار والسلام، رأفة بالمدنيين الذين تقتلهم إسرائيل عبثاً على جانبي الحدود، كما ورأفة بجنودها الذين ملوا القتال العبثي والأوحال اللبنانية. ولا شك أن المواقف المتصلبة قد لانت قليلاً خلال زيارات هوكشتاين للبنان وإسرائيل، ما يضفي جواً من التفاؤل بقرب حصول اتفاق مبدئي، عسى أن يوقف النار والمذابح.
وفي النهاية، الأكيد أن أي اتفاق لن يحصل أبداً على إعطاء إسرائيل حرية الحركة العسكرية في لبنان، فضمان أمن إسرائيل هو في يد إسرائيل، وعليها وقف اعتداءاتها وخروقاتها لتعيش بسلام وأمان.