بـ"التاريخي والاستثنائي"، وُصِف يوم الثامن من كانون الأول، ليس في سوريا فحسب، بل في المنطقة بأسرها، على وقع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، ومعه سقوط حكم حزب البعث الذي استمرّ زهاء نصف قرن، وذلك بعد عشرة أيام تسارعت فيها الأحداث بشكل متسارع ودراماتيكي، بدا عصيّا على الفهم والاستيعاب، خصوصًا أنّها جاءت بعد نحو 14 عامًا على اندلاع ما وُصِفت بالثورة الشعبية، وتحوّلت إلى حرب دمويّة.
هكذا، بدت أقرب إلى "الخيال" المعارك التي شهدتها سوريا في غضون عشرة أيام فقط، بدءاً من معركة الاستيلاء على حلب، التي أعلنتها فصائل المعارضة المسلحة، في توقيت لافت تزامن مع دخول وقف إطلاق النار في لبنان حيّز التنفيذ، بمعزل عن مدى وجود "ترابط" بين الأمرين، وصولاً إلى السيطرة على حمص منتصف ليل السبت، والدخول إلى العاصمة دمشق، وإعلان سقوط النظام، وفرار رئيسه بشار الأسد، في غضون ساعات قليلة فقط.
وفي حين تفاوتت الآراء والتفسيرات لما جرى، خصوصًا أنّ تقدّم فصائل المعارضة المسلحة حصل من دون مقاومة فعليّة، وهو ما عزاه البعض إلى التسليم بالأمر الواقع ربما، أو إلى "تخلّي" الحلفاء عنه بصورة أو بأخرى، وما ربطه البعض بـ"صفقة ما" تمّ التوصّل إليها خلف الكواليس، فإنّ علامات استفهام بالجملة طُرِحت حول "اليوم التالي"، أو المرحلة المقبلة في سوريا، والتي تبدو "دقيقة ومفصلية"، ومليئة بالتحدّيات، وربما المخاطر...
سقوط الأسد "يصنع التاريخ"
بمعزل عن كلّ شيء، وقبل الحديث عن السيناريوهات المعلومة والمجهولة، وعن الآفاق والتبعات والتداعيات، فإنّ الأكيد أنّ حدث سقوط الرئيس بشار الأسد "صنع التاريخ"، وأنّ ما بعده لا يمكن أن يكون كما قبله على كلّ المستويات، علمًا أنّ "اللغز" الذي انطوى عليه، خصوصًا من حيث السرعة الدراماتيكية في مسار الأحداث على امتداد الأيام العشرة الأخيرة، بدا محيّرًا وغير مفهوم لكثيرين، خصوصًا بغياب أيّ مقاومة، أو ربما محاولة مقاومة حتى.
ولعلّ ما يثير الانتباه في متابعة هذا الحدث المفصليّ والتاريخيّ، يتمثّل في ردود الفعل، خصوصًا في الداخل السوري، التي كانت بخلاف ما كان متوقّعًا، "شبه موحّدة" على الحماس والاحتفاء، والتفاؤل بمستقبل أكثر ازدهارًا وإشراقًا، من دون أن يبرز انقسام كان يُخشى منه، بل إنّ شخصيات كانت معروفة بدفاعها شبه المستميت عن النظام، لم تتردّد في الانتقال سريعًا إلى "الضفة الأخرى"، وكأنّها تحرّرت من عبءٍ كان "ثقيلاً" عليها.
يقول العارفون إنه بغضّ النظر عن الموقف من النظام، ومن مرحلة ما بعده، فإنّ الثابت أنّ حقبة أساسية من تاريخ سوريا قد انتهت مع سقوطه، لتبدأ حقبة جديدة، يأمل السوريون ومعهم اللبنانيون والكثير من الشعوب الأخرى، أن تحمل الخير والازدهار للمنطقة، فلا تأتي لتكرّس اقتتالاً جديدًا، لم يعد أحد يتحمّله، خصوصًا بعد أثمان باهظة دُفِعت منذ العام 2011، وفاتورة "ثقيلة" ازدادت وطأتها بشكل خاص في السنوات الأخيرة.
"سيناريوهات" المرحلة المقبلة
تصطدم هذه الآمال والأمنيات بالكثير من الهواجس والمخاوف ممّا يمكن أن تنطوي عليه المرحلة المقبلة، الغامضة حتى الآن، بغياب أيّ آلية واضحة للمرحلة الانتقالية، ووسط مخاوف من تكرار تجارب دول أخرى، لم يكن سقوط الأنظمة الحاكمة فيها "خلاصًا" لها بأتمّ معنى الكلمة، من العراق الذي وقع في دهاليز الطائفية، وليبيا التي وجدت نفسها في قلب حرب أهلية، وصولاً إلى مصر وحتى تونس، التي عادت بصورة أو بأخرى إلى نهج ما قبل "ثورة الياسمين".
ولا تبدو هذه المخاوف بعيدة عن سوريا اليوم، بالنظر إلى المخاوف من مخططات التقسيم، رغم "التطمينات" التي سعى قادة العملية العسكرية إلى تقديمها، عن سعيهم لإرساء حكم ديمقراطي عادل يعيش في كنفه جميع السوريين بلا تقسيم ولا تمييز ولا استثناء، وهو ما أكّد عليه "القائد" أحمد الشرع، المعروف بلقب "أبو محمد الجولاني"، منذ أيام، بحديثه عن أنّ المرحلة المقبلة ستكون قائمة على الحوكمة، وانتقال سلس للسلطات.
وتزداد السيناريوهات غموضًا، وربما سوداوية، مع دخول إسرائيل على الخطّ، خصوصًا بعدما أصرّت على "تعكير" فرحة السوريين بالإنجاز الذي تحقّق، من خلال استقدامها تعزيزات عسكرية إلى شمال الجولان عند الحدود مع سوريا، فضلاً عن إعلان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو انهيار اتفاق "فض الاشتباك"، وإيعازه إلى جنوده بـ"الاستيلاء" على المنطقة العازلة، حيث تنتشر قوات الأمم المتحدة، ما يطرح الكثير من علامات الاستفهام.
هي "سوريا الجديدة"، يقول البعض، لا استبداد فيها ولا تمييز، وقد أسّست لها فصائل المعارضة المسلحة بخطاب "مدني" شهد تحوّلاتٍ لافتة، وإن لم تكن كافية للبعض الآخر لإزالة "هواجس" الماضي الطائفية. هي "سوريا الجديدة" التي قد يكون من السابق لأوانه الحكم عليها، بانتظار اتضاح صورة المرحلة الانتقالية وآلياتها، ولا سيما أنّ الكثير سيُبنى عليها، على صعيد مستقبل سوريا، ولكن أيضًا لبنان، والمنطقة برمّتها!