في اليوم الأول لسقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، شهدت مناطق لبنانية، خاصة في البقاع، فرحة عارمة، حيث انطلقت احتفالات شبان سوريين ولبنانيين حاملين أعلام الثورة السورية وأعلام فلسطين، متجولين على الطريق المؤدي إلى معبر المصنع الحدودي.
على الطريق، علت الهتافات والمشاهد الاحتفالية التي جسدت لحظة تاريخية فارقة بين الجارين، لكن هذه الفرحة امتزجت سريعًا بتساؤلات حول مستقبل العلاقة بين البلدين، خصوصًا ما يتعلق بملف اللاجئين السوريين.
في لبنان، كان النقاش حول عبء النزوح السوري دائمًا حاضرًا في السياسة والمجتمع. ومع سقوط الأسد، برزت دعوات عاجلة لعودة اللاجئين إلى بلادهم، مدعومة بشبه إجماع سياسي وشعبي يطالب بمعالجة آثار اللجوء على الاقتصاد اللبناني والخدمات العامة.
في الأيام التي تلت الانهيار السياسي في دمشق، لم يكن المشهد عند معبر المصنع بسيطًا. بينما تدفق العائدون إلى سوريا، استمر آخرون في البقاء أو التردد بسبب انعدام الثقة في استقرار الوضع الأمني والسياسي هناك، مما يعكس صورة معقدة تتجاوز الاحتفالات إلى تحديات كبرى تنتظر الحلول.
"كيف الوضع في الداخل؟"، سألت أحد السائقين السوريين، فأجابني " تمام تمام الوضع كثير ممتاز".
مر سائق آخر تكاد الابتسامة لا تفارق وجهه، فسألته عن تقديراته للحركة على الحدود: "هل هي أكثر كثافة باتجاه سوريا أو بالعكس؟"، ليقول لي بالدارجة "حالياً النزلة للشام أكثر".
عاودت سؤاله "وهل يذهبون للبقاء في سوريا؟"، فقال لي "نعم".
التوق للعودة والفرح بزوال النظام، كانا واضحين على وجوه كثير من السوريين المتجهين إلى معبر "المصنع" قادمين من مناطق لبنانية مختلفة. لكنني لمست تردداً لدى البعض منهم، قبل اتخاذ قرار العودة.
أحدهم قال إنه يريد بداية أن يدخل ليرى بنفسه ويتجول في حيه، ويستشعر الوضع المعيشي، ليتخذ القرار فيما بعد. لكنه أشار إلى أنه يخشى ألا يتمكن من العودة إلى لبنان، حتى لو كان ذلك لتسوية أموره، قبل أن يعود نهائياً إلى سوريا.
بعد ساعات قليلة، بدأ يتضح أنه في مقابل حركة العودة إلى سوريا، هناك عدد من السوريين يحاولون الدخول عبر نقطة المصنع إلى لبنان، منهم من جاؤوا من مناطق ذات أغلبية شيعية.
"هناك فوضى" قال أحدهم، وأضاف "هناك أولاد يبلغون من العمر 14 سنة يحملون السلاح. هناك إطلاق نار في الهواء. هناك سرقات. الجيش خلَّف سلاحا كثيراً، والناس استولت عليه".
في اليوم التالي، دخل سوري من قرية نبل في حلب مع زوجته وأطفاله الثلاثة.
قال إنه ترك نبل حين دخلتها قوى المعارضة، وذهب إلى منطقة السيدة زينب في دمشق، ثم غادرها إلى لبنان بعد سقوط النظام.
وأضاف: "نحن تلقينا تطمينات، وأنا لم أسمع أو أشاهد أن أحداً قد تعرض لانتقام في حلب". لكنه أعرب عن خوفه من أعمال انتقامية فردية.
ومضى قائلاً: "أنا لم أقتل أحداً. لكن كيف لي أن أقنع كل الناس بذلك؟"
مشاهد تحرير السجناء في سوريا، أيقظت الأمل في قلوب لبنانيين جاؤوا إلى معبر المصنع، وبعضهم عبر إلى سوريا أملاً في لقاء أقارب لهم، مفقودين ومخفيين قسراً منذ عقود.
فارس المغبط، عسكري متقاعد، كان يقف وحيداً قرب نقطة الأمن العام اللبناني، له أخ يُدعى وفيق لم يره منذ 32 عاماً. يجاهد فارس لحبس دموعه وهو يتحدث عن وفيق.
"أخذه الجيش السوري – المخابرات – من هنا في المصنع ولا نعرف عنه شيئاً".
كان هذا في التاسع عشر من تشرين الأول من عام 1992.
يضيف: "سألنا أناساً كانوا مسجونين معه. أحيانا نسمع أنه كان في المزة، أحيانا في صيدنايا أو تدمر. الخبر الأخير كان أنه في صيدنايا".
وفي نقطة المصنع، يستمر الناس في العبور من سوريا وإليها، يسكنهم خليط من العواطف المتناقضة وكثير من التحسب.
فالتاريخ يتحرك أمامنا بسرعة مهولة لم يتوقعها أحد، وباتجاهات لا يمكن التنبؤ بها. (بي بي سي)