مِنْ ماذا عن اليوم التالي للحرب على غزة، إلى ماذا عن اليوم التالي للحرب على لبنان، وصولاً إلى ماذا عن اليوم التالي لما يجري في سوريا بعد المستجدات والتطورات التي شهدتها مع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد وسيطرة فصائل المعارضة المسلحة على الحكم والاجتياح الإسرائيلي الحدود السورية في المنطقة العازلة التي سبق أن أنشئت وفقا لاتفاقية فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل.
كل ذلك يحصل، وسط محاولات إعادة رسم شكل المنطقة من جديد، علماً أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أعلن أنه سينهي سياسة الرئيس جو بايدن في الشرق الأوسط وسيبدأ مرحلة جديدة من السلام فيه.
وفي ما يتصل بلبنان، وفي حديثه عن اليوم التالي لوقف إطلاق النار وانتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان، قدم الأمين العام لـحزب الله الشيخ نعيم قاسم، وعوداً في إطار المشروع السياسي للحزب تشمل المساهمة في معالجة أزمة الشغور الرئاسي عبر المجلس النيابي، مع تأكيده أن الخطوات السياسية لحزبه ستكون "تحت سقف اتفاق الطائف، بالتعاون مع القوى السياسية" في البلاد.
ولا شك في أن القوى اللبنانيةَ كافة أمام مسؤولية تاريخية، بعيداً عن جدل الانتصار والانهزام والكيديات السياسية وسياسات التشفي، والمطلوب تجسيد منطق سيادة الدولة على كل أراضيها وتطبيق اتفاق الطائف نصا وروحاً والقرارات الدولية وإعادة ترميم الجسورِ بين اللبنانيين عبر طاولة حوار يضع عليها جميع القوى السياسية هواجسهم ومخاوفهم بعيداً عن أي تهميش لمكون على حساب الاخر فلبنان لا يحتمل اقصاء أحد، ولا ينقذه إلا العودة إلى الدستور، لأن الدول لا تنمو ولا تتطور فعليًا إلا في دساتيرها ومن خلالها.
أستاذ الفلسفة السياسية الأب البرفيسور باسم الراعي يسأل في حديث لـ"لبنان24": هل اليوم التالي هو يوم افتراضي كما في فيلم The Day After سنة 1983، أم هو يوم واقعي؟ سؤال مشروع ما دام يقترن بسؤال ثانٍ: عن أي يوم تالٍ نتحدث؟ إذا كان عن اليوم التالي للحرب في لبنان، فنحن أمام ستين يومًا من وقف إطلاق نار، وبالتالي نحن لا نزال في الحرب. إذا كان عن اليوم التالي للحرب في المنطقة، فنحن في مخاض كبير، لا تجليات واضحة له، بل إرهاصات. وإذا كان عن اليوم التالي للحرب التي تجري في أوكرانيا وهي من علامات حرب كونية، فنحن في تقلبات سياسية عالمية حول هيئة عالم جديد.
إن تحديد اليوم التالي، مرتبط، بحسب الراعي، بالإطار الذي ينطلق منه التحديد. لكن الأكيد أن هذه الأطر الثلاثة في تشابك على مستوى الدائرة الخارجية: عالم جديد، منطقة جديدة، لبنان تحت تأثيرهما. لكن الفارق هنا أن الخارج، وإن كان يبدو بصورة قدر تاريخي، غير أن الإرادة لا يلغيها القدر، بل يكون شرط إمكان خارجي لها، لا يلغي شرط إمكانها الداخلي، أي الحرية. ومن هنا بدء الحديث عن اليوم التالي بما يعنينا لبنانيًا، كيف نجعل منه يومَ آتٍ، يكون تعبيرًا عن الإرادة اللبنانية. فإطارا المنطقة والعالم، لا يلغيا ما نريد من ضمن شروط الإمكان القائمة.
لا تبتعد هذه المعادلة، وفق الأب الراعي، عن فهم منطق الحروب عبر التاريخ، فالحرب ليست عالماً افتراضياً، بل حقل دماء وخراب وفواجع، لكنها أيضاً فجر يوم تالٍ، يأتي بجديد. وبما أن الجديد يتصل بنتائج الحرب،فلا يمكن تقديره سلفاً. كان الفيلسوف الإغريقي هرقليطس اختصر هذا المعنى للحرب بقوله: "الحرب أب كل الأشياء وملكة الكل. تجعل البعض آلهة، وآخرين بشراً، والبعض الآخر عبيدًا، وآخرين أحراراً". ويسأل الراعي: كيف يصير البعض آلهة وآخرين بشراً، والبعض أحراراً وآخرين عبيداً؟ هل الحرب حقيقية محايدة؟ ليس لأنها مرتبطة بدافع، وفاعلين، إنما بصيرورة. ترسم هذه الثلاثة نتائج الحرب. فإذا تمعنا مليّاً، وإذا كنت أريد أن أصيغ الكلام بتأثير هيغلي أقول: لا يعود الحاسم بعد انطلاق الحرب إلى الدافع والفاعلين وحدهما، مهما بقي الدافع محفزاً أساسياً يؤثّر في الإرادة صانعة الحروب، بل للصيرورة التي تخفي في ذاتها كما يقول هيغل: "حيل العقل" التاريخي. والصيرورة تقلب المعادلات، وهي كذلك. ينطبق هذا الأمر على ما جرى عندنا منذ 8 تشرين الثاني 2023 حتى لحظة إعلان وقف إطلاق النار. الدافع والإرادة جلييّن، لكن الصيرورة خطّت مسارًا نتائجه معروفًة.
لذا من أراد أن يتعلم من الحرب عليه،بحسب الراعي، أن يتبّع نصيحتي هرودوت وتوسيديدس، المؤرخان اليونانيان الشهيران، ليفهم معنى الصيرورة في الحروب. الأول واضع كتاب التواريخ والثاني كتاب حرب البيلوبونيز. يقول هرودوت أن عمله هو : "التنقيب عن الأسباب/عن الذنب (aitia) التي أدت/الذي أدى إلى نشوب الحرب"، ويهم توسيديدس كيف "أديرت الحرب [...] وماذا قام مع اندلاعها، بانتظار ما ستؤول إليه، بعدما اخذت معنى وبالتالي هي تستأهل التفكّر أكثر من أي شيء ماض". الاسباب مهمة بالتأكيد أو الذنب، وهي الرؤى والطموحات وربما الأيديولوجيات وحتى الأحلام والأحقاد وغيرها، لكن الأهم ليس الماضي، إذا كانت الحرب أب كل جديد، أي ما يقوم مع اندلاع الحرب.
ويضيف: ماذا قام مع اندلاع الحرب عندنا؟ لعمري شيء واحد، كنت قد أعربت عنه من على هذه الصفحة يوم ناقشت محاضرة النائب الدكتور علي فياض، وختمتها بالقول: "ماذا يفيد اللبنانيين إذا ربحوا الأرض كلها وخسروا أرضهم المشتركة، لا بالمعنى المادي فحسب، بل بمعنى القاعدة والمنطلق أي الهوية والرسالة؟ في هذه الحال لا بد لكل من الجيوسياسي والجيواستراتيجي أن يُوظفا من أجل هذه الأرض، فبدل أن نشد الداخل إلى الخارج، لماذا لا نشد الخارج ليكون في خدمة الداخل، فيكون لنا نصيب أفضل بين الشعوب والأمم"؟ والحال أن الأرض المشتركة هي التي بقيت بما انتهت إليه المواجهات. وهذه الأرض عبّرت عن ذاتها أنها مشتركة في كل ما شهدناه من اندفاعة لا سؤال فيها بين اللبنانيين، بل من روح لبنانية خالص. هذه الروح لم تقم بسبب الحرب، كانت الحرب الفرصة لتتجلى من جديد. لكن هل نحتاج للحرب لنتأكد من وجودها؟ كلا لكن الحرب كانت الواسطة لنفي الكلام الذي يشكك فيها أو يناقضها.
إذا كان هذا الذي قام في الرحب، يبقى ما آلت إليه؟ سقوط الرهانات، وانجلاء الواقع. فاليوم التالي للحرب، يحتّم، كما يؤكد الأب الراعي، الوقوف أمام هذه الحقيقة. والحال أن عدم التمسك بما قام في الحرب، يعني استمرار الحرب، فنحن أمام تهديد دائم، وعلى صعيد المنطقة لا أفق واضح لمصير الحرب الدائرة، وعالمياً تفاوض قابل لكل شكل، لكن الأكيد ان النزال في ساحة أوكرانيا مستمر. ربما قائل، يقول: هل في الأمر دعوة إلى الحياد؟ ليست القضية بهذه البساطة طبعاً. لا نتكلم على حياد هنا، بل على الأرض المشتركة التي من دونها لا يوم آتٍ للبنان.
إن المطلوب لليوم الآتي بحسب ما يؤكد البرفسور الراعي؟
أولاً، واحدة من قواعد العلم المهمة : أن من أراد أن يتقدم معرفيًّا عليه أن يحدث "قطيعة معرفية". لا مجال لليوم الآتي من دون مراجعة عميقة ونقدية على المستوى الوطني العام، لكن بالأخص على مستوى حزب الله. فهول الخسائر التي وقعت في النفوس والقدرات والبنى، تتكلم وحدها عن ضرورة هذه القطيعة. تحفّز عليها أيضاً التقلبات التي جرت على صعيد السياسة في العالم والمفاجأت التي أتت من قادة سياسيين كبار بيدهم الحل والربط، تحتم التوقف والنظر في مصير الشعوب في لعبة الأمم. بعد ذلك تستدعي التصورات التي تقفز خارج حدود الأرض المشتركة السؤال عن الحدّ الذي لا بد من وضعه، ذلك أن أي فكرة بحسب الفيلسوف كانط لا بد من أن تطلق مسار تفكير، لكن لا بد من أن تضع حداً. فلكل فكرة نتائج، وبالتالي هي مقرونة بالمسؤولية. هذه المستويات الثلاثة هي قضية مصيرية اليوم، لأنه في اليوم الآتي للحرب، إذا كنا نريد أن نكتب لنا كلبنانيين حضوراً في العالم الجديد، لا يمكننا أن نهرب من هذه القطيعة.
ثانيًا، إن القيام بهذه القطيعة، يعني أننا بدأنا نتلمس الطريق الواقعية لما تقتضيه الأرض المشتركة، معبراً عن هذه اللحظة بخبرة الإمام الغزالي، فبعدما طاف يسأل عن الحقيقة والخلاص، وجد أن هناك سبعين فرقة وكل فرقة تقول إنها الناجية، عاد إلى ذاته قانطًا، فإذا بنور يقذفه الله في قلبه. أعتقد اننا كلبنانيين سرنا هذه الدروب، والحرب اللبنانية علمتنا ثمن السير وراء فرق ناجية، تمثلت بالإرتهان لمشاريع، وأفكار ودول وقوى. كلنا قمنا على أساسها بدورة الوجدان. ألم يحن الوقت بعد هذه الأحداث المدمرة أن نقنط ونعود إلى ذاتنا، ونترك أرضنا المشتركة تقذف نورًا في قبلنا. أعتقد أن هذه هي اللحظة. ألاّ يستوقفنا انهيار الأنظمة العربية، وانهيار الدول معها، ونحن لأن لنا دولة لا نظام، نقف على أرض ثابتة. ألا نشعر أنه بعد مقامرتنا بالدولة إلى هذا الحد، ولم تنكسر، في ذلك دعوة لنا لليقظة. لا يأتي النور في السياسية من غيب، بل من التاريخ الذي يصنعه شعب لذاته. القضية هنا ليست قضية مؤسسات فحسب، بل مسألة روح وتاريخ (كما تجلى ذلك في الحرب الأخيرة). بهذا المعنى تأخذ الأرض المشتركة معنى الكيان السياسي. لكن بما أن تاريخ هذا المفهوم محمّل بالكثير من سوء الفهم عندنا، ربما تكون الأرض المشتركة أكثر حيوية ببعديها: روح وتاريخ. نقول هذا لأن واحدة من دروس اليوم التالي، يبدو أن سقوط الكيانات تم تجاوزه (على سبيل المثال ما حدث في سوريا بعد الدخول الروسي، وما نراه اليوم من سيطرة عناوين موحدة سوريا) وما يحدث هو عملية إعادة تشكيل للدول.
ثالثًا، إن هذه الأرض المشتركة لا تنفصل عن جسد يُلبس الروح والتاريخ. جسدها هو الدولة ومؤسساتها. فالحرب الأخيرة كشفت من جديد أن الدولة ضرورة لا خيار. وهي بالتالي ليست اختيارًا على قائمة، بل شرط أساسي ووحدة متكاملة، لا يؤخذ بشيء منها من دون الآخر. والدولة في لبنان لا تحتاج كل يوم إلى القول فيها : "أين الدولة؟" أو "عن أي دولة تتكلم؟". الدولة كما قرّر اللبنانيون في شأنها معاً، مرسومة في دستورها ومعالمها واضحة، وآخر تأكيد عليها كان الطائف. آن الأوان بعدما نشهد في المنطقة عن شعوب تبحث عن دولة، أن نتسمك بما أنجزه اللبنانيون معاً في شأن الدولة ورسموه من حدود لعملها. وهذا لا يستقيم، إذا لم نعيد لمفهوم سيادة الدولة معناه أنها وحدها "آمرة ومتحكمة، لا مأمورة ومتحكم بها" (بودان). لا أحد يفهم حركة التاريخ والتحولات الحاصلة، يشك بهذه الحقيقة، وخصوصاً ما شهدناه من جديد على صعيد اتفاق اطلاق النار. مهما كان شأن اللاعبين السياسيين وقدرتهم، فهذا لا فعالية له، إلاّ لأنهم يشغلون مواقع قرار في مؤسسات الدولة الشرعية. فمهما قيل عن تنسيق مع جهات معنية، بقي في النهاية أن مؤسسات الدولة هي فاوضت، وهي أقرت وهي التزمت. لقد آن الأوان الإقرار بضرورة رفع الإزدواجية والعودة إلى أطر الدولة ومؤسساتها. لذلك لم يعد ينفع التلاعب السياسي تحت عنوان اتفاقات جانبية أو برعاية، لأن في ذلك إمعان في إضعاف منطق الدولة، ونتائج ذلك معروفة. لا ينقذ لبنان إلا العودة إلى الدستور، لأن الدول لا تنمو ولا تتطور فعليًا إلا في ومن دساتيرها.
وبناء على ما تقدم، يقول الأب الراعي: هذا هي معالم الآتي، وهي مطلوبة من كل اللبنانيين، بعدما تشوه الكثير من هذه المفاهيم، إذ مرّغت في وحول السفاف والسفاه السياسي. لا يوم آت إذا لم نطّهر ذاكرتنا، ولم نوضح مفاهيمنا ولم ننق فهمنا للدولة ومؤسساتها. هذه لحظة مفصلية، ولا خيار آخر سواها. وهي مطلوبة بالتحديد من حزب الله، الذي في الحرب الأخيرة قبض بيده مسؤولية قرار بدا أنه يدركه، فإذا بالحرب تظهر أنها تتجاوزه، لذا أدركتنا جميعاً.
إن الحرب بداية مقرّرة، لكنها نهاية غير مقرّرة، يقول الراعي، ويبقى المحسوم أن من أراد الحرب عليه أن يتبع حكمة تقول: "أي ملك يسير إلى محاربة ملك آخر، لا يجلس قبل ذلك فيفكر ليرى هل يستطيع أن يلقى بعشرة آلاف من يزحف إليه بعشرين ألفا"؟ من اتبع هذه الحكمة يبقي بيده خيار اليوم الآتي، ومن تخلى عنها يكون ساعياً من دون شكّ، لكنه يكون كمن لا يأخذ بواقعية التاريخ. ومن لا يأخذ بهذه الواقعية، يقع في خطر أن يلفظه التاريخ. فلبنان، كل لبنان على موعد مع هذه المعادلة، إذا لم نأخذ بدروس التاريخ.