هي الحرب التي غيّرت معالم بلدات وقرى، ومسحت أخرى عن الخرائط، وأبقت على ركامٍ يحكي ألف حكاية وحكاية عن بلدٍ عانى أهله على مدى سنوات عديدة ويلات سياسية واقتصادية واجتماعية، لترخي الحرب بظلالها وتُفاقم معها مأساة مواطنين عمرها سنوات سنوات.. وما يبرزُ اليوم على الأرض بعد حربٍ داميةٍ مسحت أبنيةً ومنازل عمرها عشرات السّنوات هو إعادة إحياء ما تهدّم عبر عملية إعادة الإعمار التي لا يعرف اللبنانيون فعليًا متى ستبدأ، وما هو الذي سيعاد إعماره، وكيف.
على الأرض، وعَدَ حزب الله بإرجاع كلّ ما تهدّم، وأوّل الغيث هي اللّجان التي تنشطُ على الأرضِ وتتابع مع أصحاب الاملاك الخسائر التّي تكبّدوها بسبب القصف الإسرائيلي، في حين لم ينتظر آخرون عملية التعويض، إذ بدأوا من تلقاء أنفسهم بعملية إعادة البناء، من خلال ترميم منازلهم على أنقاض تلك المهدمة. وما بين المنزل والآخر تروى قصصًا كثيرةً، خاصةً عن منازل لبنان، التّي بعضها هو شرعي، والبعض الآخر بني بطريقة غير شرعية، خاصة أيام الحرب والفلتان الأمني التي شهدت إحياء منازل بطرقٍ غير قانونيّة، مفتقدة للشرعيّة، سواء على أملاك الدولة، أو على أملاك الغير. وهذا يتصل بطبيعة الحال مع سلسلة من الأحداث الأخرى التي حصلت، من ضمنها فقدان الأوراق الثبوتية، ضياع العقود، تضرّر حدود الأراضي، لا وبل محوها، تلف المستندات، عملية انتقال بين أصحاب الملك الورثة، وغيرها من الأمور والمسائل المرتبطة بالأحوال الشخصية.. فما الذي ينتظرنا؟ وما الذي ستواجهه المحاكم؟ وهل الدوائر قادرة على لملمة الأمور القانونيّة الشائكة؟
بدايةً من بدء عملية إعادة الإعمار، أسئلة قانونية كبيرة تطرح، فهل يحق لأصحاب الأملاك المباشرة فورًا بإعادة عملية الإعمار؟ وما مدى خطورة الاعمار قبل التأكد من الأمور المتعلقة بالمساحة والحدود، خاصة وأن معالم الأراضي سواء في الضاحية الجنوبية لبيروت، وبعلبك، والجنوب قد تغيرت، هذا عدا عن فقدان الأوراق الثبوتية والرسمية، وتعرّض بعض المؤسسات التي تُصدر هذه الأوراق للإستهداف المباشر و غير المباشر.
من هنا، يقول المدير العام للشؤون العقارية جورج معراوي ان ما ننتظره الآن هو صدور قانون بإعادة الإعمار ليبنى على الشيء مقتضاه.
وبشّر المعراوي المتضريين خلال اتصال عبر "لبنان24" بأنّ كافة المؤسسات العقارية هي بخير، خاصةً في المناطق التي تعرضت للقصف، لافتًا إلى أنّه "لا يوجد اليوم أي مستندات متلفة أو مفقودة داخل الدوائر العقارية، حيث أن الاضرار اقتصرت فقط على تضرر الزجاج في بعض الأمانات إضافة إلى تضرر بعض الحواسيب، أمّا بالسبة إلى تضرر المستندات فقد أكّد معراوي تأكيدًا قاطعًا أن مستندات المواطنين لا تزال محفوظة سواء في النبطية او مرجعيون أو بعلبك الهرمل وراشيا.
وقال معراوي لـ"لبنان24" أن العمل في الوقت الحالي ينصب على إعادة الحياة إلى الأمانات التي توقف العمل داخلها خلال الحرب، مشيرًا إلى أنّ دوائر صيدا وصور ستبدأ مبدئيا خلال أيام باستقبال معاملات المواطنين، في حين يتم العمل في النبطية على إصلاح الأضرار المادية.
ومن المناطق المتضررة التي توقف فيها العمل إلى الدوائر في المناطق الآمنة، أكّد معراوي أن العمل في الدوائر العقارية شبه طبيعي، اما بالنسبة إلى جبل لبنان فإن استقبال المعاملات الجديدة بدأ قبل فترة إنّما ليس بشكلٍ يوميّ وذلك لسبب نقص الموظفين، لافتًا إلى أنّ قرابة 60% من الموظفين الذين كانوا قد توقفوا عن العمل بسبب التحقيقات قد عادوا إلى العمل، ونعمل اليوم على سدّ النقص المتبقي.
وعن عملية إعادة الإعمار والضغط الذي ستواجهه الدوائر العقارية أكّد معراوي أنّه للحظة الوصول الفعلي إلى عملية إعادة الإعمار حيث يتم تشييد الابنية المتضررة فإن وتيرة العمل من المتوقع أن تكون أكبر بكثير.
وبعيدًا عن العقارية، تُطرح مجددًا مسألة قانونية إعادة الإعمار قبل الاستحصال على الرخص القانونية، أو حتى قبل الكشف على الأبنية المتهدمة، وخطورة الإعمار في نفس المنطقة، وهذا ما حذّرت منه أصلا الهئية اللبنانية للعقارات التي لفتت إلى خطورة مخلفات الحرب وما قد تركه العدو من متفجرات واسلحة وقنابل عنقودية أو دمى مفخخة أو أجسام غريبة ملقاة بين ما تبقى من أحياء ومنازل، والتي تشكل خطرا على المواطنين والاطفال".
وقالت: "كان من الاجدر أن يتم إعادة مسح امني من قبل الجيش والجهات الأمنية المختصة ومعاينةالأماكن المتضررة بشكل كلي وجزئي كي لا يقع ضحيتها الكبار والصغار، وينتج عنها وقوع ضحايا أو اعاقات جسدية أو تشوهات".
من هذا المنطلق لفتت رئيسة الهيئة اللبنانية للعقارات المحامية انديرا الزهيري إلى أن مشكلات كبيرة تنتظرنا على صعيد الدعاوى الجديدة التي قد تواجهها المحاكم. وخلال اتصال عبر "لبنان24" أوضحت الزهيري أنّه "حدث ولا حرج"، هذه العبارة سوف ترافقنا لسنوات مقبلة، إذ نحن في الحالات العادية وعند الاستقرار الأمني كنا نعيش في دوّامة من المشاكل في الدوائر العقارية والإدارات الرسمية التي تتضمن دائرة التنظيم المدني والبلديات والمحاكم العقارية، اذ اننا نواجه نوعين من المستندات، مستندات ترتكز على قيود سجلات المختار والتي تعرف بافادة "علم وخبر" وتقتصر على توقيع حدود كل عقار من الجيران وتكون اما وضع اليد من خلال الحيازة العلنية غير الملتبسة او جراء بيع بموجب " الحجة "، ومن جهة أخرى هناك مستند آخر ما يعرف بصك او سند الملكية.. فكيف الحال بحالة الحرب والدمار الضخم والمخيف والنزوح القسري للمناطق المتضررة ومن الجنوب والضاحية وبعلبك ومناطق متفرقة حيث سوف نلحظ "فوضى"، إذ إن الذين تركوا منازلهم قسرا لم يأخذوا أيا من مستنداتهم ووثائقهم وأوراقهم الثبوتية عن هويتهم أو ممتلكاتهم أو اتلفت السجلات لدى المختار بسبب القصف، لذلك سوف نلحظ مشاكل كبيرة سوف تعيد خلط الأوراق لجهة اثبات الحقوق سواء كانت عينية أو عقارية، لجهة الملكية والصفة، ومَن هو صاحب الحق في التصرف لجهة القيود والاشارات والملكية".
وحذّرت الزهيري عبر "لبنان24" من استغلال البعض لهذا الظرف الفوضوي القائم وزيادة عمليات الاحتيال وانتحال الصفة والتزوير والتعدي على حق وملك الغير، وهذا ما سيضاعف من الدعاوى التي سوف يتم التقدم بها ، بين دعاوى عقارية وجزائية ومدنية وشرعية وحتى إدارية، بما في ذلك مجلس شورى الدولة في ما يتعلق بحقوق تعود ملكيتها للدولة من ملك عمومي ومشاعات واملاك خاصة للدولة وللافراد.
اضافت:" إن الخسائر لا يمكن تخمينها بشكل دقيق لعدم وجود إحصاء او تحقيق موضوعي بحجم الخسائر والاعتداءات التي طالت الاملاك العامة كما الخاصة".
وبالانتقال إلى الجنوب، البقعة التي شهدت أعنف الغارات والتفجيرات والتفخيخات التي قام بها العدو الإسرائيلي،وأحدثت تغييرًا كبيرًا في معالم الأراضي وحدود الاملاك الخاصة، تقول الزهيري :" لا يخفى على أحد نوعية الأسلحة المحرمة دوليا التي تم استخدامها،نظرا لخطورتها وتأثيرها على طبيعة الأرض وعلى المزورعات والبيئة بما فيها التي تحدث ارتجاجات قوية وحفرا ضخمة، حيث ساهمت في محو معالم حدود العقارات والمساحات المتعارف عليها في قيود المساحة وصكوك الملكية، ما سيحتم إعادة اجراء مسح دقيق وجديّ بالاستعانة بأيّ مستند، أو إثبات، أو صور من الأقمار الصناعية والجوية، وخرائط الجيش اللبنانية نظرا للتلف الكلي للكثير من المستندات والسّجلات.
وعن قانونية بدء الإعمار قبل الاستحصال على أي رخصة جديدة، قالت الزهيري: نتفهم اصرار المواطنين على عودتهم السريعة الى بيوتهم وقراهم ومنازلهم ولكن التسرع يتسبب بواقع جديد قد يكون خطرا على سلامتهم ويكبدهم مصاريف وأموالا طائلة خصوصا إذا لم يتم مسح البناء من قبل خبير ومهندس لوصف وضع الأبنية التي تضررت أو تأثرت بفعل العدوان،أو كانت قريبة من الأبنية المدمّرة جزئيًا.. لذلك كان من الضّروري التأكد من سلامة العقار في حال ما زال قابلا للسكن، لانه في حال تم إخفاء أي ضرر سوف يصعب على المهندس المكلف بالكشف اكتشاف أي خطر يؤثر على متانة البناء،والاهم حفظ حق الغير في حال كان هناك أي بناء مخالف مشيّد على أرض وملك الغير سواء للدولة او لأي وقف او ملك خاص، وهذا ما يحمي حق الملكية الفردية المصانة في الدستور والشرعات الدولية.
من ناحية أخرى، ومع العدد الكبير من الشهداء، برزت إلى الواجهة مسألة انتقال ملك الغير، سواء في حال كان المالك قد بدأ قبل وفاته بنقل ملكيته للورثة، أو في حال البدء بعملية انتقال الموروث قبل الحرب وتوقفها، خاصة وأن المحاكم كانت تعاني من اضرابات متتالية. في هذا السياق تلفت الزهيري إلى أنّه "على المراجع المختصة من محاكم شرعية الى سجلات أن تكون في مكان بيّنة، لأن هذه الخطوة تُعتبر من أدق الخطوات والحرص على الحفاظ على حق الغير سواء ما آل إليه بالارث أو بالبيع، ومنعا لأي عملية احتيال أو تزوير في المستندات أو حتى قيود السجلات أو الهوية أصحاب العلاقة".
ولفتت إلى أنّه نحن في حالة حرب ولدينا تداعيات، فيجب علينا الاخذ في عين الاعتبار صعوبة التنفيذ او نقل ملكية وإعطاء حوافز وتحفيزات للسماح لأي مواطن باستكمال عملية انتقال الملك او الحق العيني وتحديد الجهة التي سينتقل اليها هذا الحق، مع اعفاء من الضرائب والرسوم نظرا للكارثة التي من المتوقع أن نواجهها في حال لم تؤمن الحلول البديلة والسّريعة لاعادة الحياة الى المرافق العامة من أجل تسهيل عمل واستمرارية المرافق العامة وحقوق المواطنين".