ليس التمويل وحده ما يشكّل تحديًّا أمام مرحلة إعادة إعمار ما هدّمه العدو، هناك إشكاليّات بالجملة بدأت تظهر، منها كيفية التعامل مع التعديات السابقة على الأملاك العامة والخاصة خلال عمليات المسح، ومصير الأملاك والعقارات العائدة إلى عائلات استشهدت بكاملها. استغلال ذلك من قبل البعض في المرحلة المقبلة يشكّل بابًا لأوسع عمليّة تعدّ على الأملاك الخاصة والعامة. من يحمي المواطن من السطو على ملكه من قبل مواطن آخر؟ وماذا عن الأملاك العامة التي تمّ وضع اليد عليها في مراحل سابقة بحكم فائض القوّة والثغرات القانونية، هل سيتمّ التعويض على المعتدي وكأنّه صاحب الحق؟ وهل ستكرّس عملية إعادة إعمارها المخالفات القديمة؟
وضع اليد على الأراضي غير الممسوحة
تعود الإشكاليّة إلى سنوات وعقود سابقة، شهدت تعديات بالجملة على أملاك خاصة وعامة، ساهم في ذلك المنظومة التشريعيّة القديمة التي يعود بعضها إلى العهد العثماني، وعدم اعتماد المكننة في الدوائر العقارية، حيث جرت عمليات سطو ووضع اليد على أراضي الغير، وأحيانًا بالاستعانة بالقانون نفسه. تمثّلت التغرة القانونيّة بوجود أراضٍ لم تخضع للتحديد والتحرير إلزاميًّا أو اختياريًّا، إذ يكفي لإثبات ملكيّة الأراضي غير الممسوحة مستند "علم وخبر" مسجّل لدى مختار المحلّة، بعد الحصول على توقيع الجيران على الحدود الظاهرة على خريطة، حيث أنّ وضع اليد على العقار عن طريق حيازة علنيّة هادئة غير ملتبسة طوال فترة زمينّة معينة، تُحدد بحسب نوع الأرض (في الأرض الأميريّة تثبيت الملكيّة خلال عشر سنوات بواسطة توافر شروط الحيازة،أمّا في الأرض الملك خمس سنوات بوجود سند محقّ و15 سنة من دون سند محقّ) وفق ما لفتت رئيسة الهيئة اللبنانية للعقارات المحامية أنديرا الزهيري"هذه الإجراءات ساهمت بتملّك الأراضي غير الممسوحة عبر وضع اليد ضمن شروط الاستمرار والعلانيّة والهدوء ومرور الزمن، وفق ما نصّت عليه قوانين بالية سمحت بالاستيلاء على مشاعات العامة للدولة والبلديات، واستغل البعض فترات الاحتلال والحروب والفوضى والفساد وغياب الرقابة على المخاتير، والتأخّر في مسح الأراضي، لضمّ الأراضي المجهولة المالك إلى أراضٍ خاصّة. على سبيل المثال حصلت عمليات مسح عقارات عائدة لمغتربين على أسماء أشخاص آخرين، ولم يتمكّن أصحاب الحقوق من الاعتراض ضمن المهل القانونيّة، لأنّهم لم يعلموا بالاعتداء. واقع الأراضي غير الممسوحة سيخلق مشكلة اليوم في مرحلة إعادة البناء، وستصطدم إجراءات المسح بمعوقات، أبرزها عمليات تزوير إفادات الملكيّة على أملاكهم". في السياق نشير إلى عملية وضع اليد على مساحات شاسعة من الأراضي المتروكة في بلدة الناقورة المسجّلة في عام 1950 باسم الدولة اللبنانية. وقد تذرّع المعتدي بأنّ العقارات هي من النوع الأميري، ومسحها على اسمه، فادّعت عليه البلدية، وبادرت هيئة القضايا في وزارة العدل، وصدر قرار عن الغرفة الاستثنائية الثانية في الجنوب، وتمّ استرداد تلك العقارات.
المشكلة المستحدثة في مرحلة إعادة البناء
لن تكون هناك إشكاليّة بالنسبة للأراضي الممسوحة والبناء القانوني، يمكن لأصحابها ممن فقدوا سند الملكية بسبب الحرب، أن يستحصلوا على نسخ منه من الدوائر العقارية أو دوائر المساحة أو من وزارة المالية قسم الضرائب على الأملاك المبنية. لكن المعضلة الكبرى تكمن في العقارات غير الممسوحة، وفي الأراضي التي تمّ البناء عليها بشكل مخالف للقانون وفي التعديات. في السياق تسأل زهيري "هل ستتمكّن الدولة بمسؤوليها وقضاتها وقواها الأمنيّة من إزالة التعدّيات والفوضى والتجاوزات والمخالفات عن الأملاك العامة والمشاعات والأملاك الخاصة؟ وهل ستُعاد الحقوق إلى أصحابها بعدما تمّ هضمها طيلة السنوات السابقة؟ وهل ستتمكّن القوى الأمنية من منع تكرار التعدّيات في المناطق التي ستشهد عمليات تشييد وبناء المساكن؟ هل سيتقيّد أصحاب المنازل المهدّمة بالرخص ومعايير السلامة العامة؟ وهل ستخضع عمليّة إعادة الأعمار للرقابة الفعليّة بما يحمي الوحدات السكنيّة من الانهيار،أم سيحظى هؤلاء بغطاء جهة ما للمغامرة وإعادة المخالفة أو التعدّي على حقّ الغير؟
ضياع المستندات ونزاعات قضائيّة
فرضت الحرب أكبر عملية نزوح من المناطق المتضرّرة، عدد لا يستهان به من الأهالي الذين تركوا منازلهم قسرًا لم يأخذوا مستنداتهم وأوراقهم الثبوتيّة والرسميّة. وبفعل تدمير منازلهم وقراهم دُفنت المستندات تحت الركام، ناهيك عن تهدّم أو تلف السجلّات لدى المخاتير والدوائر الرسمية بسبب قصفها أو حرقها، وفق الزهيري "هذا الواقع من شأنه أن يخلق مشاكل كبيرة ونزاعات في عمليّة إثبات الحقوق خلال المسح، سواء أكانت عينيّة أو عقاريّة، لجهة الملكيّة والقيود والصفة وهوية صاحب الحقّ في التصرّف. من هنا نتخوف من عمليات استغلال البعض لهذه الفوضى، للقيام بعمليات احتيال وانتحال صفة وتزوير وصولًا إلى التعدّي على أملاك الغير، خصوصًا أنّ هناك عائلات بأكملها استشهدت، وهناك عدد كبير من المفقودين. كل ذلك من شأنه أن يضاعف من تزايد الدعاوى القضائيّة وتنوّعها، بين دعاوى عقاريّة وجزائيّة ومدنيّة وشرعيّة ودينيّة وحتّى إداريّة، بما في ذلك مجلس شورى الدولة بما يتعلّق بحقوق تعود ملكيتها للدولة من أملاك عموميّة ومشاعات، وأملاك خاصّة للدولة وللأفراد".
تعقيدات كبيرة تتلازم وعمليات المسح وإعادة البناء، تتطلب جهودًا جبّارة من قبل السلطات القضائية والمحليّة والأمنيّة، فضلًا عن عمل الوزارات والإدارت المعنيّة، للحيلولة دون هضم المشاعات وحقوق الأفراد من قبل تجّار الأزمات.