فاجأ رئيس تيار "المردة" الوزير السابق سليمان فرنجية جميع القوى السياسية بمن فيهم الحلفاء بعدم سحب ترشيحه من بورصة أسماء المرشحين المحتملين، وأعلن استمرار خوضه السباق الرئاسي حتى النهاية.
وبهذا الموقف المفاجئ للبعض والمستغرب من قبل البعض الآخر أعاد خلط الأوراق الرئاسية من جديد، بالتوازي مع ارتفاع أسهم قائد الجيش العماد جوزاف عون.
ويعتقد بعض المطلعين أن قرار فرنجية بعدم سحب ترشيحه أتُخذ عشية إطلالته الاعلامية، وذلك بناء على مداولات ومشاورات أُجريت معه في اللحظات الأخيرة، وبالأخص من قِبل عدد من مسؤولي "الثنائي الشيعي"، الذين تمنوا عليه عدم إعطائه "الخصوم" فرصة تسهيل مهمتهم الرئاسية، وبالأخص بعدما تأكد لهم جدية المداولات داخل صفوف " المعارضة" بترشيح أحد أقطابها.
وعليه، فإن موقف فرنجية الجديد يمكن وضعه في خانة "المناورات" السياسية بهدف إحداث بعض الارباك في صفوف "المعارضة"، وتصعيب الأمر على الجميع، وبالأخص على الذين سبقوا غيرهم في تبني ترشيح العماد عون.
وإلى أن يحين موعد جلسة ٩ كانون الثاني المقبل فإن الاتصالات القائمة على قدم وساق ستأخذ في الاعتبار موقف فرنجية، الذي قلب الموازين والتوقعات والبونتاجات، خصوصا أنه أعاد عقارب الساعة إلى ما قبل استشهاد الأمين العام السابق لـ "حزب الله" السيد حسن نصرالله، وسقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الاسد، وهما الشخصيتان اللتان كانا يشكلان الغطاء السياسي لفرنجية في معركته الرئاسية، من دون أن ينسى المراقبون التنويه بموقف الرئيس نبيه بري، الذي لا يزال يمسك العصا الرئاسية من نصفها، في "لعبة" رئاسية يجيد ممارستها بكل حنكة وحكمة.
وفي الاعتقاد فإن عدم الاستهانة بما يمكن أن يصدر عن قوى "المعارضة" من مواقف استباقية لجهة تبني ترشيح العماد عون، الذي لا يزال يُعتبر من بين المتقدمين في بورصة الأسماء، التي تملك حظًا أكثر من غيرها بالوصول إلى خط النهاية قبل المرشحين الآخرين، مطلوب اليوم من قوى "الممانعة" أكثر من أي وقت.
فما أعلنه فرنجية قبل 22 يومًا من جلسة التاسع من كانون الثاني المقبل سيعيد حتمًا خلط الأوراق الرئاسية. فهذا الموقف يأتي بعد سلسلة تطورات حصلت في لبنان وسوريا. وقد يكون فرنجية من بين أكثر الأشخاص الذين تأثروا في شكل غير مسبوق باستشهاد نصرالله وسقوط الأسد. ومن الطبيعي أن يتخذ هذا الموقف الرئاسي المخالف لبعض التوقعات، ومن الطبيعي أيضًا أن يُرسم مسار جديد للاستحقاق الرئاسي وفق ما نتج عن انحسار موجة كان يعتقد كثيرون أنها كانت تشكّل أساسًا متينًا لشبكة التحالفات القديمة، التي كانت قائمة على ثلاثية الترابط العضوي بين طهران وحارة حريك ودمشق.
ويعتقد كثيرون أن فرنجية أحسن قراءة المشهد الجيوسياسي الجديد في ضوء ما نتج عن الحرب الواسعة والشرسة، التي شنتها إسرائيل ضد مناطق بيئة "حزب الله" في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع، وكذلك الأمر بالنسبة إلى سقوط نظام البعث في سوريا بهذه الطريقة المفاجئة، والتي لم يكن يتوقعها أحد وبالأخصّ حلفاء هذا النظام، وفرنجية واحد من بين كثيرين. إلاّ أن هذا الموقف المفاجئ يعني عدم تخّليه عن مبادئه وانتظامه في محور قد يبدو للبعض أنه يتهاوى في وقت يحاول بعض أركانه الظهور بمظهر المنتصر، وعلى رأسهم الشيخ نعيم قاسم، الذي يجهد في ضخ جرعات من الدعم المعنوي لبيئته أولًا، ولحلفائه ثانيًا.
ما يمكن قراءته في ما اتخذه فرنجية من مواقف يتلخص بالنقاط التالية:
أولًا، لقد كان واضحًا في تحديد ما ينتظر اللبنانيين من تعقيدات ستضاف حتمًا إلى سلسلة المشاكل التي كانوا يعيشونها قبل الحرب الإسرائيلية وقبل سقوط الأسد، وهي مشاكل تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم. والأخطر من كل هذا أن لا أحد من الأفرقاء اللبنانيين يملك عصا سحرية إنقاذية. وجل ما في الأمر أن الجميع ومن دون استثناء يستطيبون لحس المبرد.
ثانيًا، تعامل مع الموضوع الرئاسي بواقعية من خلال قراءة متأنية لما يمكن أن تكون عليه مجريات جلسة التاسع من كانون الثاني. واساس هذه القراءة الموضوعية قادته إلى الاستنتاج المنطقي لطبيعة ما يمكن أن ينتج عنها من تسويات يسعى إليها الرئيس بري بكل ثقله. لا شك في أن هذا الموقف نابع من قناعة بأن محور "الثنائي الشيعي"، وكأنه في عزّ قوته، وقبل استشهاد نصرالله وقبل سقوط الأسد، مستمر في مناوراته السياسية والرئاسية. اليوم. إلاّ أن هذا الأمر لا يعني أن مرشح "المعارضة" له حظوظ رئاسية أكثر من غيره. ولذلك فإن المسعي الذي بدأ به الرئيس بري حتى قبل إعلان فرنجية استمراره في السباق الرئاسي كان يهدف إلى التوافق على مرشح غير استفزازي لأي مكّون سياسي، وبالأخصّ للمكّون الشيعي، الذي هو جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع اللبناني المتعدّد الطوائف والثقافات.
ثالثًا، يمكن اعتبار هذا الموقف المتقدم نقطة تحّول في المسرى الرئاسي. فما بعد 18 من كانون الأول لن يكون كما قبله وما سبقه من "بازارات رئاسية". فلائحة المرشحين الذين تنطبق عليهم المواصفات العابرة للطوائف والمناطق والحدود بدأت تتقلص. وهذا الأمر من شأنه أن يسهّل على الممسكين بالخيط الرئاسي من المكونات اللبنانية، وكذلك "اللجنة الخماسية"، عملية "قولبة" هذه المواصفات المتفق عليها بين الجميع واسقاطها على عدد المرشحين.
وفي رأي بعض العاملين على الخط الرئاسي أن موقف فرنجية قد أتاح إمكانية التوصل إلى تقاطعات سياسية على أكثر من محور.