لم تكن زيارة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إلى بيروت مجرد محطة بروتوكولية، بل حملت في طياتها رسائل سياسية واقتصادية واضحة، تزامناً مع مرحلة جديدة دخلها لبنان عقب انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية. فبعد أكثر من 15 عاماً على انكفاء الحضور السعودي المباشر في بيروت، جاءت هذه الزيارة لتشكل مؤشراً على مقاربة مختلفة تبنّتها الرياض تجاه لبنان، مبنية على إصلاحات جذرية تنتظرها المملكة قبل إعادة تفعيل العلاقات الاقتصادية. وإلى جانب زيارة بن فرحان، شهدت بيروت محطات خليجية لافتة منذ انتخاب عون، أبرزها زيارة وفد مجلس التعاون الخليجي ووزير الخارجية الكويتي، ما يعكس اهتماماً خليجياً متزايداً بمستقبل العلاقة مع لبنان. وبينما يستعد الرئيس عون لأول زيارة خارجية له، والتي من المتوقع أن تكون إلى الرياض، يكثر الحديث عن اتفاقيات اقتصادية مرتقبة قد تعيد رسم مسار التعاون اللبناني-السعودي وفق أسس جديدة.
فجّرت مجموعة الحبتور مفاجأة مدوية بإعلانها إنهاء مشروعين أساسيين في لبنان، الأول يتمثل في إيقاف أعمالها الاقتصادية والاستثمارية، بما في ذلك فندق الحبتور، والثاني يتمثل في التراجع نهائيًا عن مشروع المدينة الإعلامية، الذي كان من المفترض أن يشهد انطلاق قناة عربية من بيروت. هذه الخطوة، التي جاءت في توقيت حساس، أثارت تساؤلات حول مستقبل الاستثمارات الخليجية في لبنان ومدى قدرة البلاد على استعادة ثقة المستثمرين. ترى مصادر اقتصادية أن هذه القرارات قد تكون رسائل سياسية واقتصادية بشأن المرحلة المقبلة، لكنها قد لا تكون نهائية، خاصة أن مجموعة "الحبتور" سبق أن اتخذت قرارات مشابهة بالتوقف عن الاستثمار في لبنان، قبل أن تعاود نشاطها إيمانًا منها بموقع بيروت الاقتصادي الاستراتيجي. غير أن الفساد المستشري، والأزمات الأمنية، والحروب المتكررة، كلها عوامل تدفع المستثمرين إلى الهروب من لبنان نحو الأسواق الخليجية، التي تشهد صعودًا اقتصاديًا لافتًا.
في ظل هذا الواقع، يبقى السؤال الأبرز: هل بات لبنان خارج خريطة الاستثمارات الخليجية؟ وهل يمكن استعادة الثقة وجذب رؤوس الأموال مجددًا؟ أم أن مسلسل انسحاب الشركات الكبرى سيستمر، في ظل غياب الإصلاحات وانعدام الاستقرار؟
هذه الأسئلة حملناها إلى رئيس هيئة تنمية العلاقات الاقتصادية اللبنانية الخليجية في الهيئات الاقتصادية إيلي رزق، الذي شدّد على أن الزيارات الخليجية الأخيرة تحمل في طيّاتها رسائل إيجابية تؤكد حرص دول مجلس التعاون الخليجي على إعادة العلاقات مع لبنان إلى سابق عهدها. وأشار رزق إلى أن هذه الزيارات تأتي في ظل انتخاب رئيس للجمهورية، ما يعكس توجّهًا واضحًا نحو دعم استقرار لبنان والسعي إلى إعادة إحياء العلاقات الاقتصادية بين الطرفين. وأوضح أن دول الخليج لا تحمل إلا النيات الإيجابية، التي تتجلّى في السعي إلى رفع الحظر عن تصدير المنتجات اللبنانية إلى الأسواق الخليجية، إضافةً إلى إلغاء القيود المفروضة على سفر مواطني دول الخليج إلى لبنان، وهي خطوات ضرورية لاستعادة الثقة وضخّ استثمارات جديدة في الاقتصاد اللبناني المنهك.
ورأى رزق أنّ وزراء ومبعوثي الدول الخليجية لم يتلمسوا أي جدية حتى الان من الجانب اللبناني لناحية قدرته الكاملة على تطبيق القرار 1701 بكامل مندرجاته، وتشكيل حكومة إصلاحات حقيقية، مشيرًا إلى أنّه في حال تأخر لبنان عن تطبيق القرار 1701، ولم يتم تشكيل حكومة إصلاحات فإنّ لا مساعدات للبنان، ومن المتوقع تباعا أن يخفّ الزخم الدولي، غامزًا من القناة السورية، خاصة مع بزوغ عهد جديد في دمشق تنصب إليه أعين الدول العربية، وتجلى ذلك من خلال الزيارات المهمة العربية إلى سوريا. ولفت رزق إلى أنّه في حال لم يستفد لبنان من هذا الزخم الحالي وأظهر جديةً على صعيد الاصلاحات فإنّ العلاقات العربية اللبنانية قد لا تعود إلى سابق عهدها، خاصة وأنّ الدول العربية تلمست جدية تامة من سوريا لناحية الاصرار على إصلاح الاوضاع، والعمل على إعادة إعمار سوريا.
وأكد رزق أن الدعوة الرسمية التي تلقاها الرئيس جوزاف عون لزيارة السعودية تحمل مؤشرات إيجابية، مشيرًا إلى أن جدول أعمال هذه الزيارة يتضمن 22 اتفاقية تتعلق بقطاعات السياحة، الاقتصاد، الإعلام، التجارة، والثقافة. ورغم أهمية هذه الاتفاقيات، إلا أن موعد الزيارة لم يُحدد بعد. وأشار رزق إلى أن الإمارات العربية المتحدة بدورها وجّهت دعوة رسمية للرئيس عون، ما يعكس توجّهًا خليجيًا واضحًا نحو إعادة بناء العلاقات مع لبنان، ولكن بشروط واضحة أبرزها إصلاحات جذرية تعيد الثقة بالدولة اللبنانية.
وشدّد رئيس هيئة تنمية العلاقات الاقتصادية اللبنانية الخليجية إيلي رزق على أنه لا يمكن القول أن للسعودية مصلحة كبيرة الآن في العودة إلى لبنان، إلا أن السعودية تسعى لتحقيق مصالح لبنان والوقوف إلى جانبه. وطرح تساؤلًا جوهريًا حول جدية لبنان في التحرّر من هيمنة الدول الأخرى التي تدعم بعض الأحزاب اللبنانية، مشيرًا إلى أن هذا التحرّر يشكل العائق الأكبر أمام إعادة بناء الثقة بين لبنان ودول الخليج.
وأكد رزق أن الحل اليوم يكمن في تسليم السلاح غير الشرعي للدولة، داعيًا إلى بسط سلطة الجيش على كامل الأراضي اللبنانية. واعتبر أن الاستقرار السياسي والأمني لا يمكن أن يتحقق إلا عبر إعادة فرض سلطة الدولة على كل المؤسسات والمناطق، بعيدًا عن أي تدخلات خارجية أو التسلّط الحزبي.
وأعرب إيلي رزق عن أمله في أن لا تكون لحظة انتخاب الرئيس عون وما صاحبها من حالة إيجابية، التي بثّها خطاب القسم، مجرّد "رهجة" سرعان ما تنقضي، بل شدّد على ضرورة أن يكون هناك إعادة بناء "هيبة" موقع الرئاسة، التي تعدّ الركيزة الأساسية لاستعادة الاستقرار السياسي في لبنان. إلا أنه أشار إلى أن هناك مكونات معينة لا ترغب في خدمة هذه الهيبة، وأن الممارسات السياسية الحالية قد تؤدي إلى مزيد من الشكوك والتوترات، مشددًا على أن هذا النوع من السلوك لا يعطي الطمأنينة اللازمة في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها لبنان.