يحيي تيار "المشتقبل" الذكرى العشرين لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، في ظلِّ التحوُّلات الجذرية التي يشهدها لبنان والمنطقة، وتأخد زيارة الرئيس سعد الحريري إلى بيروت لإحياء هذه الذكرى بُعداً سياسياً استثنائياً، لا سيما أنها تأتي بعد غيابٍ طويل. تُعتبر هذه الزيارة محطةً مفصليّة تُعلن عن عودة مُزمَعة لـ"تيار المستقبل" إلى الواجهة السياسية، مع ما يرافق ذلك من تداعيات على المشهدين الانتخابي والطائفي، وتوازنات القوى التقليدية التي قد تُعيد تشكيل خريطة التحالفات المقبلة.
من الواضح أنَّ عودة الحريري ستعيد إحياء دور "التيار الأزرق" كقوةٍ سنية معتدلة، ما يُغلِق الباب أمام محاولات استغلال الفراغ الذي خلَّفه غيابه. فقد أثبتت السنوات الماضية فشلَ أيّ طرفٍ في ملء هذا الفراغ بشكل كامل وحاسم، حيث باءت محاولات خلق قيادةٍ بديلة بالفشل الذريع.
وبعودة الحريري، الذي يُعتبر الوريث السياسي والرمز الأبرز للسنّة، سيعود الثقل الطائفي إلى توازناته التقليدية، ما يُضعف فرص القوى التي حاولت استقطاب أصوات السنّة خلال غيابه، مثل "القوات اللبنانية"، التي راهنت على توسيع نفوذها عبر استمالة ناخبين من خارج قاعدتها المسيحية.
على الصعيد الانتخابي، ستكون عودة "تيار المستقبل" دَعماً واضحاً للقوى التقليدية، لا سيّما في ظلِّ المهرجانٍ الحاشد في ساحة الشهداء والذي يُتوقَّع أن يشارك فيه الاف الاشخاص، كرسالةٍ رمزية تُعيد تأكيد الشعبية الواسعة للتيار. كما أنَّ إشارات الحريري إلى ضرورة المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة – وإنْ تَجنَّب الإعلان عن ترشُّحه الشخصي – تُشير إلى نيّة التيار خوض المعركة، وهذا ما يعزز حضور "المستقبل" في الدوائر السنية ويُقلص فرص "قوى التغيير" التي نجحت سابقاً في كسب مقاعد نيابية خلال غياب التيار.
في المقابل، ستكون "القوات اللبنانية" الخاسر الأكبر في هذه المعادلة، إذ أنَّ عودة الساحة السنية إلى احتضان زعيمها التقليدي ستُفشل استراتيجيتها الرامية إلى تعزيز نفوذها عبر استقطاب أصواتٍ سنية. كما أنَّ تحالفات الحريري المُحتملة مع قوى سياسية مثل الحزب التقدمي الاشتراكي قد تُعيد تشكيل التحالفات السياسية ما يُضعف موقع "القوات" كقطبٍ مسيحي. أما "قوى التغيير"، التي استفادت من غياب "المستقبل" في الانتخابات السابقة، فستواجه تحدياً وجودياً مع عودة التيار الذي سيستعيد جزءاً كبيراً من قاعدته الشعبية، خصوصاً مع التركيز على خطاب الاعتدال ورفض التطرف، الذي يلقى صدىً واسعاً لدى السنّة المُحبطين من التجاذبات الطائفية .
لا تقتصر تأثيرات عودة الحريري على الداخل اللبناني فحسب، بل تمتد إلى المحيط الإقليمي، حيث تُشير التحولات الأخيرة – مثل سقوط نظام بشار الأسد – إلى توافقٍ مع رؤية "تيار المستقبل" التاريخية المناهضة للنفوذ السوري والإيراني. كما أنَّ الدعم ، خاصة من الإمارات العربية المتحدة، يُعطي الشرعية الإقليمية لهذه العودة، في وقتٍ ترفع فيه السعودية – بشكلٍ غير مباشر – الفيتو عن الساحة اللبنانية، ما يفتح الباب أمام تفعيل دور التيار من دون عوائق.
زيارة الحريري ليست مجرد إحياء لذكرى استشهاد والده، بل هي إعلانٌ صريحٌ عن مرحلةٍ سياسية جديدة تهدف إلى إعادة تموضع "تيار المستقبل" كفاعلٍ قوي في الحياة السياسية، مع ما يحمله ذلك من إحياءٍ للتوازنات الطائفية وتقويضٍ لفرص القوى الصاعدة التي استفادت من غيابه. وفي حين تُشكّل هذه العودة بارقة أملٍ لمنظّري الاعتدال، إلا أنها تُذكّر أيضاً بأنَّ اللعبة السياسية في لبنان لا تزال تُدار من خلال الزعامات التقليدية وقدرتها على التأقلم مع المتغيرات.