ليس عاديًا أن تشهد الساحة السياسية الداخلية ما يشبه "حرب البيانات" التي يكون أحد طرفَيها الجيش ، الذي لطالما نأى بنفسه عن التجاذبات، وحيّد نفسه عن الصراعات، لكنّه وجد نفسه هذه المرّة في "قفص الاتهام" بعد موقف رسمي لـ"حزب الله" حمّله مسؤولية "المواجهة" التي شهدها اعتصام يوم السبت، بحديثه عن إقدام بعض عناصر الجيش على "تصرّف مستهجَن يشكّل اعتداء غير مبرّر على مواطنين سلميّين".
في بيانه، تحدّث "حزب الله" عن "محاولة مشبوهة لزجّ الجيش في مواجهة مع أهله وشعبه"، قبل أن يدعو قيادة الجيش إلى "فتح تحقيق عاجل عن هذا الاعتداء المُدان، واتخاذ الإجراءات المناسبة حفاظًا على دور المؤسسة العسكرية في حماية الاستقرار والسلم الأهلي"، لتردّ القيادة سريعًا ببيان "توضيحي"، حرصت على عدم تسمية الحزب فيه، حيث أكدت أنها "اضطرت إلى التدخل"، بعد قطع الطريق والتعرض لعناصرها، ما أدّى لإصابة 23 عسكريًا.
ولم تكتفِ قيادة الجيش بالإشارة إلى أنّ تدخّلها "جاء لمنع التعدي على عناصرها وفتح الطريق"، بل تعمّدت القول إنّ ذلك يأتي "تطبيقًا لقرار السلطة السياسية بهدف منع إقفال الطرقات والتعديات على الأملاك العامة والخاصة"، فهل يعني ذلك أنّ "المواجهة" التي شهدها احتجاج طريق المطار، لم تكن سوى "تبادل رسائل" بين الحزب والسلطة السياسية، وهل يمكن أن تتطور في القادم من الأيام، وكيف يُفهَم كلّ ذلك في سياق التطورات السياسية الحاليّة؟
"حزب الله" غير راضٍ
قد يكون من المبكر لأوانه الإجابة عن هذه التساؤلات في الوقت الحاليّ، إلا أنّ الثابت وفقًا للعارفين، أنّ "حزب الله" ليس راضيًا عن المسار الآخذ بالتصاعد منذ ما بعد الحرب الإسرائيلية، على الرغم من الخطوات "الاستيعابية" التي أخذها، بدءًا من الانخراط في "التسوية" بانتخاب الرئيس جوزاف عون، الذي كان مرفوضًا من جانبه قبل الحرب، وصولاً إلى "التفاهم" مع رئيس الحكومة نواف سلام، على الرغم من موقفه المعروف من تسميته.
وإذا كان "حزب الله" نجح في "احتواء" موقف جمهوره من هذه الاستحقاقات، رغم شعور الأخير بشيء من "الانكسار" الذي لا يشبه روحيّة "الانتصار" التي يكرّر أمينه العام الشيخ نعيم قاسم الحديث عنها في كلّ خطاباته، فإنّ الأزمة التي فجّرها منع الطائرة الإيرانية من الهبوط في مطار بيروت، لم تترك له مجالاً للأخذ والردّ، خصوصًا أنّ جمهوره سبقه في "ردّ الفعل" منذ الليلة الأولى، فيما كانت قيادته تدعو إلى انتظار المعالجات السياسية.
وبعدما خرجت الأمور عن الحدود المرسومة، خصوصًا بحادثة الاعتداء على آلية "اليونيفيل" على طريق المطار، وما رافقها من "ضياع" داخل بيئته الحاضنة، التي انقسمت بين من دعا بـ"المجد للغاضبين"، ومن وصفهم بـ"الطابور الخامس"، بل استحضر "القوات اللبنانية"، حاول الحزب استعادة السيطرة من خلال اعتصام سلميّ "منظَّم"، فإذا بالمفاجأة بخروجه أيضًا عن السيطرة، ما جعله يسأل عمّن يريد الزجّ بالجيش في مواجهة معه.
المعالجة السياسية المطلوبة
بالنسبة إلى المؤيدين لـ"حزب الله"، فإنّ المشكلة الجوهرية تكمن بالدرجة الأولى، في قرار منع هبوط الطائرة الإيرانية، مع ما يمثّله من "خضوع وإذعان" للشروط الأميركية الإسرائيلية، علمًا أنّ خطورة القرار برأي هؤلاء لا تكمن فقط في أنّه "يضرب السيادة عرض الحائط"، ولكن أنّه يشكّل "سابقة من نوعها"، قد تسمح لإسرائيل مستقبلاً بالتدخّل في الشاردة والواردة، وبالتحكّم بحركة الدخول والخروج إلى لبنان، بسلاح "الترهيب" الذي تمسك به.
وفيما يستغرب المحسوبون على الحزب أن يصار إلى "مواجهة" أنصاره، بدعوى منع قطع الطرقات، علمًا أنّ بعض من في السلطة كانوا للمفارقة من دعاة "قطع الطرق" في مرحلة ما تسمّى بـ"ثورة تشرين"، فضلاً عن أنّ اعتصام طريق المطار كان مضبوطًا وسلميًا بعكس ما يتداول، ثمّة من يرى أنّ الحزب "يخطئ" باستخدام الشارع في هذا التوقيت الحسّاس، وهو الذي يعرف أنّ "المعالجة السياسية المطلوبة" في مكان آخر.
وفي هذا السياق، يلفت البعض إلى أنّ الحزب كان الأوْلى به ترك المعالجة السياسية للأزمة القائمة إلى الحكومة، التي يعتبر نفسه جزءًا منها، وربما "الصبر قليلاً"، أقلّه بانتظار تاريخ 18 شباط، علمًا أنّ آخرين يذهبون أبعد من ذلك، بالقول إنّ المعالجة المطلوبة تبدأ من الحزب نفسه، الذي ينبغي عليه أن "يضبط" جمهوره، بل بعض "النخبة" المحسوبة عليه، الذين خرج منهم من "يخوّن" رئيسي الجمهورية والحكومة بكلّ بساطة، ويتهمهما بـ"العمالة".
في الظاهر، يقول العارفون إنّ "حزب الله" قد يكون على حقّ حين يرفض "الخضوع" للشروط الأميركية الإسرائيلية، في شؤون يفترض أن تكون "سياديّة"، على غرار من يحقّ له الهبوط في المطار. لكن في المضمون، يعتبر البعض أنّ المشكلة التي وقع فيها الحزب، كانت باستخدامه "لعبة الشارع" سريعًا، وهي "لعبة" يدرك الجميع أنّها لا تغيّر المعادلات، فضلاً عن أنّها لا تنسجم مع انطلاقة العهد، التي يفترض أنّ الحزب يريدها قبل غيره، مثمرة وواعدة!