لم تكن "زيارة"رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري إلى لبنان هذا العام، في ذكرى اغتيال والده رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، كسابقاتها في السنوات الثلاث الأخيرة، في الشكل والمضمون، فضلاً عن "مدّة إقامته" التي زادت عن العادة، وقد بدا خلالها وكأنّه "يؤسّس" للعودة المنتظرة إلى الحياة العامة، وهو ما تجلّى في خطابه في الرابع عشر من شباط، الذي أعلن فيه ما يشبه "تعليق" قراره تعليق العمل السياسي.
منذ وصول الحريري إلى بيروت، بدا أنّ قرار "تعليق العمل السياسي" أصبح خلف ظهره، وهو ما تجلّى في جولة الزيارات التي قام بها على مختلف الرؤساء والمسؤولين، وتوّجه بالمواقف التي أطلقها في المهرجان الذي نظّمه تيار "المستقبل" في الذكرى العشرين لاغتيال والده، والذي قال فيه صراحةً إنّ صوت "المستقبل" سيكون حاضرًا في كلّ الاستحقاقات الوطنية المقبلة، ولو أنّه تعمّد عدم الدخول في التفاصيل، مكرّرًا مقولة "كل شي بوقتو حلو".
وبعد 14 شباط، تابع الحريري نشاطاته السياسية، فاستقبل الشخصيات والوفود، من مختلف المناطق، ولكن أيضًا من مختلف الكتل والأحزاب السياسية، من دون أن يصدر عنه صراحةً مواقف واضحة مع هذا الفريق أو ضدّه، بعيدًا عن تلك المواقف التي أطلقها في مهرجان "المستقبل"، ما فتح الباب أمام علامات الاستفهام، فإذا كان الحريري أسّس من خلال هذه الزيارة إلى العودة للسياسة، فوفق أيّ أسُس، وبناء على أيّ تحالفات تحديدًا؟
التموضع السياسي "ثابت"
يقول المحسوبون على تيار "المستقبل" أو المقرّبون منه، إنّ التموضع السياسي للتيّار "الأزرق" ثابت، وهو لم يتغيّر، وقد عبّر عنه رئيسه سعد الحريري خير تعبير، في الكلمة المقتضبة، ولكن الشاملة والمعبّرة، التي ألقاها في خطب 14 شباط، والتي يمكن اعتبارها "خريطة طريق" للمرحلة المقبلة، خصوصًا أنّه تعمّد فيها عدم التصويب على أيّ طرف في الداخل، تاركًا بذلك الباب مفتوحًا أمام كل الاحتمالات والسيناريوهات لجهة العلاقة مع مختلف الأفرقاء.
في هذا الخطاب، كان الحريري "حازمًا" في الحديث عن الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الذي نعته صراحةً بـ"المجرم"، بوصفه المتهم الأول بجريمة اغتيال والده، وباعتبار أنّ الشعب السوري "تحرّر" أخيرًا من قبضته، داعيًا إلى علاقات "ندية" مع القيادة الجديدة في دمشق، لكنه لم يعتمد "الحزم" نفسه إزاء "حزب الله" الذي اتهمت المحكمة الدولية أفرادًا منه بالتورّط في الجريمة، ولو ألمح إلى ذلك بصورة أو بأخرى، بحديثه عن "عدالة السماء".
ويسجّل المتابعون للحريري، على النقيض من ذلك، أنّه أبقى على "الانفتاح" على الحزب، حين دعا مجدّدًا إلى "الشراكة الكاملة" بين مختلف المكوّنات الداخلية، بما في ذلك المكوّن الشيعي، وإن طالب الأخير بتغيير الانطباع عن كونه "قوة تعطيل"، وكلّ ذلك يؤشّر إلى أنّ "الشيخ سعد" أراد في هذا الأخير أن "يثبّت" التموضع السياسي السابق لقراره تعليق العمل السياسي، وهو القائم على ما بات يُعرَف بـ"الاعتدال"، لجهة الانفتاح على الجميع.
ماذا عن التحالفات؟
في خطاب 14 شباط، حرص الحريري إذاً على أن تبقى رسائله "عامة"، وهو ما فعله بعد الخطاب، حيث عاد إلى تبنّي شعار "لبنان أولاً"، بصورة أو بأخرى، معلنًا في الوقت نفسه دعمه للعهد الجديد، وللحكومة الوليدة، علمًا أنه التقى خلال هذه الزيارة الجميع تقريبًا، فاستقبل وفدًا من "حزب الله" مثلاً، سلّمه دعوة لحضور تشييع الأمين العام السابق السيد حسن نصر الله، كما استقبل وفدًا من "القوات اللبنانية" التي استعادت مشهدية "14 آذار" في مكانٍ ما.
ولأنّ الحريري قال في مهرجان 14 شباط، إنّ "المستقبل" سيكون حاضرًا في الاستحقاقات الوطنية المقبلة، وقد فُهِم من ذلك أنّ العودة "الثابتة" ستكون مع الانتخابات النيابية المقبلة المنتظرة خلال عام ونيّف، طُرِحت أسئلة بالجملة عن التحالفات السياسية التي يمكن أن يخوض "المستقبل" الانتخابات على أساسها، وهو ما يعتقد العارفون أنّ تحديده يبقى "مبكرًا لأوانه"، وأنّ هذا بالتحديد هو ما دفع الحريري إلى "العبور بين الألغام" في كلماته.
يقول هؤلاء إنّ كل الاحتمالات تبقى مفتوحة، من الآن وحتى يحين موعد الانتخابات، علمًا أنّ الأشهر المقبلة ستكون "حاسمة" في رسم البوصلة، تحضيرًا للاستحقاق، ويشيرون إلى أنّ "سيناريوهات" شكل العودة تبقى مفتوحة أيضًا، علمًا أنّ أحدها يشير إلى أنّ الحريري سيبقى "متنقّلاً" في المرحلة المقبلة، من دون أن ينقل مقرّ إقامته إلى لبنان بصورة دائمة، وسط تقديرات بأن تتولى النائبة السابقة بهية الحريري الأمور العملياتية على الأرض.
شيءٌ واحدٌ حسمه سعد الحريري في زيارته الأخيرة إلى لبنان، وهو أنّ "تيار المستقبل" الذي انكفأ لثلاث سنوات، "راجع"، علمًا أنّ الحشود الكبيرة التي استطاع تأمينها في الذكرى العشرين، شكّلت "ردًا ضمنيًا" على كلّ المشكّكين. لكن أبعد من هذه "الثابتة"، تعمّد الحريري ألا يحسم شيئًا آخر، لا على مستوى التموضع السياسي ولا على التحالفات، ربما لأنّ معطيات العودة لم تنضج بالكامل، وربما لترك كل الأبواب، وربما النوافذ، مفتوحة!