ما بين 9 كانون الثاني 2017 و3 آذار 2025 فاصل زمني مفصلي. ففي هذه السنوات السبع شهدت الساحة اللبنانية أهم التطورات، التي طبعت الخمس سنوات من عهد الرئيس ميشال عون، وما تلاها من فراغ ترك بصمته المشؤومة على عتبة كل بيت في لبنان كانت امتدادًا لعهد أوصل اللبنانيين إلى جحيم الحرب الإسرائيلية بكل وجوهها البشعة والمدمرة، وإلى ما سبقها من كل أنواع عذابات ما في هذا الجحيم. وإذا بدأ المرء بتعداد هذه العذابات فلن ينتهي إلاّ وتكون هذه العذابات قد توالدت في الذاكرة الجماعية لشعب لم يعرف العيش الهني منذ اليوم الأول، الذي تبخّرت فيه ودائعه التي جمعها بالعرق والدموع والتعب والشقاء، قرشًا قرشًا، وخبأ ما جنته أيديه من "قروش بيض" على مدى سنوات لتجنّب الوصول إلى "أيامه السود". ومنذ ذاك "اليوم الأسود" لم يبقَ لدى اللبنانيين ما يدعوهم إلى التفاؤل والأمل إلى أن حلّ تاريخ 9 كانون الثاني، حيث لاح لهم أمل جديد بغد أفضل يتطلب الحفاظ عليه الكثير من العمل والجدّ وتحمّل المسؤولية الجماعية من قِبل رئيس جديد لـ "جمهورية ثالثة" وسلطة تنفيذية يؤمل في أن تستطيع تجاوز العقبات وتخطّي العراقيل، وهي ليست بقليلة، وتحتاج إلى إرادة من فولاذ لا تلين أو تنكسر أمام التحديات، وإلى تصميم وتخطيط ووعي ودراية وحكمة في التعاطي مع الأزمات بواقعية وبعيدًا عن الغوغائية و"الدينكاتوشيات" ومقارعة طواحين الهواء بسيوف من ورق.
في 9 كانون الثاني من العام 2017 زار الرئيس ميشال عون المملكة العربية السعودية في أول زيارة له إلى الخارج. واعتقد كثيرون يومها أن هذه البداية ستكون فاتحة خير للبنان ولعهد أُطلقت عليه تسمية في غير محلها، وهي تسمية لم يكن فيها من القوة ما يكفي للحؤول دون إيصال اللبنانيين إلى الجحيم. واعتقد كثيرون أيضًا أن هذه الزيارة ستكون تأسيسية لتعميق علاقة لبنان بأشقائه العرب، وبالأخص مع دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. وكذلك اعتقد كثيرون أن زيارة الرئيس ميشال عون للرياض ستكون بداية لعودته من اتفاق وقعه في 6 شباط من العام 2006، وسمي بـ "اتفاق مار مخايل" مع "حزب الله"، والذي تلاه بعد سنوات اتفاقان لولاهما لما تمكّن من الوصول إلى عتبات قصر بعبدا، وهما "اتفاق معراب" واتفاق "بيت الوسط"، اللذان لم لبثا أن تهاويا ما أن انتهى "التمسكّن" بـ "التمكّن".
لكن ما تلا هذه الزيارة من مواقف اتخذها الرئيس عون الأول دفاعًا عن سلاح "المقاومة" من على منبري الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية فأعطى لهذا السلاح مشروعية رسمية بعدما كان قد أعطاها من خلال "تفاهم مار مخايل" غطاء مسيحًا، وإن غير مكتمل، مع ما رافق ذلك من حملات شنّها "حزب الله" ضد السعودية وإغراقها بحبوب "الكابتاغون" أدّت إلى قطع الرياض علاقتها الديبلوماسية مع لبنان، وهو الذي وقفت المملكة إلى جانبه في أقسى محنه، ولم تتركه ينزلق في خلال أزماته إلى الجحيم فكانت له السند والمعين.
أمّا زيارة اليوم فمختلفة عمّا سبقها. فالرئيس جوزاف عون لا يحمل على اكتافه نير أي من الاتفاقات الثلاثة، التي حملها معه سلفه إلى بعبدا، ومنها إلى الرياض. وما اتخذه من مواقف منذ اليوم الأول لاعتلائه السدّة الرئاسية عندما رفع يده وأقسم اليمين بأنه سيحافظ على الدستور ويحمي السيادة اللبنانية، وتعهد في خطاب القسم بأن يرسم خارطة طريق لإنقاذ الوطن من الغرق، شجّعت دول الخليج العربي، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية، على إعادة تموضعها على الساحة اللبنانية، سياسيًا واقتصاديًا وتنمويًا، من خلال ما لمسته من استعداد للعودة الآمنة والطوعية لـ "الابن الشاطر" إلى كنف حضنه العربي الدافئ.
لن يذهب اللبنانيون بعيدًا في التفاؤل، الذي يبقى مشروطًا بمدى ما يمكن أن تحقّقه أول زيارة للرئيس جوزاف عون إلى الخارج، ومن الطبيعي أن تكون الرياض محطتها الأولى بالتوازي مع زيارة مماثلة من حيث أهميتها الرمزية لحاضرة الفاتيكان لولا الوضع الصحي الطارئ لقداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس، الذي يخضع للعلاج في المستشفى منذ أكثر من أسبوعين.
فما سبق هذه الزيارة من مواقف سيادية بامتياز يتخذها الرئيس عون، وأهمها أن قرار السلم والحرب قد أصبح في يد الدولة، تؤشر إلى زيارة 3 آذار من العام 2025 لن تكون نتائجها بالتأكيد كزيارة 9 كانون الثاني من العام 2017.
في الزيارة الأولى كانت بداية انهيار العلاقات اللبنانية – السعودية. وفي الزيارة الثانية يؤمل في ان تكون بداية عودة هذه العلاقات إلى طبيعتها الأخوية والتاريخية، وعودة لبنان إلى حيث كان يجب أن يكون.