نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية تقريراً جديداً قالت فيه إنَّ صناع النبيذ اللبنانيين يكافحون من أجل البقاء وسط استمرار التوترات بين لبنان وإسرائيل.
ويقول التقرير الذي ترجمهُ "لبنان24" إنَّ أصحاب مزارع الكروم في البقاع يركزون أكثر على الغارات الجوية الإسرائيلية من محصول هذا العام، وسأل: "كيف تتعامل هذه الشركات العائلية مع هذا الوضع؟".
وتابع: "في أيلول الماضي، كان إلياس معلوف ووالده يجلسان في شاتو رياق، مصنع النبيذ العائلي في البقاع في لبنان، عندما قررا العودة إلى المنزل لتناول وجبة الغداء. وبعد خمس دقائق، أسقطت طائرة إسرائيلية قنبلة على منزل يقع على الجانب الآخر من الشارع، مما أدى إلى سحق المبنى وتدمير جزء كبير من مصنع النبيذ".
وفق التقرير، يقولُ معلوف البالغ من العمر 41 عاماً وهو يجلسُ في مصنع النبيذ حيث يقوم عمال الإصلاح باستبدال جهاز تلفزيون محطم بعد 5 أشهر: "لو لم نغادر لكنا متنا".
ما يظهر، بحسب التقرير، هو أنّ الأبواب تحطّمت بسبب قوة الانفجار، فيما تناثر الزجاج المحطم على الطاولة التي يجلس معلوف عليها الآن، كما أنَّ خشب الأثاث لا يزالُ مليئاً بالثقوب بسبب الشظايا.
وفق التقرير، فإنه "بعد ساعة من القصف، عاد معلوف إلى مصنع النبيذ وبدأ بأعمال الإصلاح، فجمع الزجاجات المكسورة، بعضها يعود تاريخها إلى أكثر من عشرين عاماً، وأزال قدماً مقطوعة سقطت أمام مخزنه، وجمع المعدات المكسورة في مصنع التقطير الخاص به".
في حديثه عبر "الغارديان"، يقول معلوف: "كل ما استطعت أن أشمه هو النبيذ. إنك تستمتع دائماً برائحة نبيذك الخاص، ولكن في ذلك اليوم كانت الرائحة الأسوأ التي يمكنني أن أتخيلها هي رائحة خسارتي".
وخسر معلوف نحو 40 ألف زجاجة و158.600 جنيه إسترليني كتعويضات، واضطر إلى ترك 60 طناً من العنب لتذبل على الكرمة.
وبدأت التصعيد في القتال عبر الحدود اللبنانية بين حزب الله وإسرائيل في 8 تشرين الأول 2023، بعد أن أطلق الحزب صواريخ على إسرائيل "تضامناً" مع الفلسطينيين في أعقاب الهجوم الذي قادته حماس في 7 تشرين الأول وبدء القصف الإسرائيلي على غزة، مما أدى إلى اندلاع 13 شهراً من الحرب.
وحتى الآن، أسفر القتال عن استشهاد أكثر من 3900 شخص في لبنان ، ونزوح أكثر من مليون شخص، وترك أجزاء من الجنوب وسهل البقاع والعاصمة بيروت في حالة خراب.
ويلفت تقرير "الغارديان" إلى أنه "بالنسبة لصانعي النبيذ في لبنان، كانت الحرب كارثية"، ويضيف: "إن صناعة النبيذ في البلاد هي واحدة من أقدم الصناعات في العالم وكانت تنتج 7 ملايين زجاجة سنوياً قبل الحرب، بما في ذلك Chateau Musar الشهير".
وأوضح التقرير أنَّ "هذه الصناعة تعتمد بشكل كبير على السياحة، كما أنَّ العديد من مزارع الكروم الصغيرة التي ظهرت في السنوات الـ15 الماضية تعتمدُ على الزوار والفعاليات لكسب عيشها".
وأكمل التقرير: "لا يملك معلوف سوى أمل ضئيل في الحصول على تعويضات من حزب الله ، الذي وعد بتمويل المتضررين من الحرب، لكنه كمنظمة لم يمول إعادة بناء مصنع للنبيذ. ومن دون علمه، كان المبنى الذي رآه معلوف عبر الشارع عبارة عن منشأة لإنتاج الطائرات من دون طيار تابعة لحزب الله، وهي هدف رئيسي لإسرائيل".
وأكمل: "هذه ليست المرة الأولى التي تعيق فيها الحرب صناعة النبيذ لدى معلوف، فالأرض التي كانت تربتها الخصبة تضفي على نبيذه نكهة خاصة، والبلد الذي ألهم تاريخه الغني حرفته، كانا في بعض الأحيان سبباً في تعريضها للخطر".
بدوره، رفض رولان أبو خاطر، الذي يدير شركة "كوتو دو ليبان" في مدينة زحلة في البقاع، أن تمنعه الحرب من إنتاج النبيذ. ففي الأشهر الأخيرة، عندما سمع توقف القصف، كان يرفع العلم الأبيض على شاحنته، ويسرع إلى كرم العنب، ويبدأ في الحصاد.
ونقل أبو خاطر العنب في شاحنات تم إزالة أسقفها، حتى تتمكن الطائرات الإسرائيلية من دون طيار من رؤية أن المركبات لا تشكل أي تهديد، وهي خدعة تعلمها من والده في حرب لبنان الإسرائيلية عام 2006.
في حديثه عبر "الغارديان"، يقول أبو خاطر: "كان والدي يقول لي إن العنب لن ينتظر انتهاء الحرب أبداً، وأننا لا نستطيع ترك العنب على الكرمة".
وينتج الكرم حوالى 150 ألف زجاجة سنوياً، معظمها للتصدير إلى أوروبا. ورغم أن أبو خاطر وزوجته تمارا جبارة تدربا على تقنيات صناعة النبيذ في فرنسا، إلا أنهما يصران على استخدام أصناف العنب المحلية في لبنان.
ورغم جهودهم الحثيثة، فقد خسر أبو خاطر وزوجته ثلاثين طناً من العنب، ولم يتمكنا من تعبئة بعض أنواع النبيذ في الموعد المحدد أثناء الحرب، بسبب نقص الفلين المستورد. كذلك، توقفت عمليات الشحن الجوي إلى جانب جميع الرحلات الجوية الأخرى إلى لبنان، باستثناء شركة الطيران الوطنية.
هنا، تقول جبارة: "لقد اضطررنا إلى التخمير دون أن نعرف ما إذا كان بوسعنا بيعه أم لا. لم يكن العنب لينتظر، ولم يكن النبيذ لينتظر".
وفي جنوب لبنان، بالقرب من الحدود مع إسرائيل، كان على صناع النبيذ أن يواجهوا دماراً بيئياً واسع النطاق.
وبحسب "الغارديان"، فقد أحرقت الذخائر الإسرائيلية ما يصل إلى 2192 هكتاراً (5414 فداناً) من الكروم، وأُتلفت عشرات الآلاف من أشجار الزيتون، وقُتلت آلاف الماشية، وفقاً للمجلس الوطني اللبناني للبحوث العلمية.
فضلاً عن ذلك، يخشى خبراء البيئة أن يكون للاستخدام الواسع النطاق في جنوب لبنان للذخائر التي تحتوي على الفسفور الأبيض، والتي تنتج دخاناً كثيفاً ساماً، تأثيراً طويل الأمد على البيئة، ذلك أن بقايا الذخيرة اللزجة التي تشبه القطران الأسود قد تشتعل مرة أخرى عند تعرضها للأوكسجين.
وفي دراسة أجرتها وزارة البيئة اللبنانية، وجدت مستويات مرتفعة من المعادن الثقيلة وكمية من الفوسفور تعادل 900 ضعف الكمية التي تلقاها التربة التي تعرضت للقصف بالمدفعية وقنابل الفوسفور الأبيض.
ولا يزال العلماء يختبرون التربة في جنوب لبنان لمعرفة ما إذا كانت هناك أي آثار طويلة الأمد قد تشكل خطراً على الصحة العامة والزراعة.
وعلى الرغم من أن مزرعة الكروم Les Vignes du Marje لم تتعرض لقصف مباشر من قبل أي قنابل إسرائيلية، إلا أن كارول تيار خوري وزوجها عماد خوري لم يستخدما أيًا من العنب من أرضهما في مرجعيون، وهي بلدة تبعد 8 كيلومترات عن الحدود اللبنانية الإسرائيلية.
وفي حديثها، قالت قالت كارول: "لم تُصب أي قطعة من الأرض بالفوسفور الأبيض، ولكن في حالة الطوارئ، لم نستخدم أي عنب من مرجعيون، لأننا كنا خائفين من سؤال الناس عما إذا كان الفوسفور الأبيض يؤثر على النبيذ".
ولحماية نبيذهم من الاهتزاز في خزاناتهم من القصف القريب، نقل آل خوري السائل إلى مكان ثانٍ بعيداً عن الحدود في تموز 2024، وفق "الغارديان".
وكان لابد من نقل الزجاجات ببطء شديد تحت جنح الظلام، لأن تعريضها لأشعة الشمس ورجها قد يفسد محتوياتها. في المقابل، كانت إسرائيل وحزب الله أكثر نشاطاً في القصف ليلاً، لذا لم تكن الرحلة خالية من المخاطر.
وبسحب التقرير، فإن إبقاء النبيذ ساكناً طوال الرحلة يعني أن من يقومون بنقله اضطروا إلى القيادة ببطء شديد، مما أدى إلى تحويل الرحلة التي كان من المفترض أن تستغرق ساعتين إلى أكثر من أربع ساعات، حيث كان خطر القصف يلوح في الأفق.
وبعد انتهاء الحرب بعد وقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني والانسحاب الجزئي للقوات الإسرائيلية من جنوب لبنان، بدأ صانعو النبيذ اللبنانيون في إعادة بناء صناعتهم ويتطلعون إلى أيام أفضل.
ويعمل معلوف الآن على زجاجة نبيذ جديدة تحمل اسم جوليانا، على اسم زوجته التي تقدم لها بطلب الزواج في أول عشر دقائق بعد لقائهما.
وستكون الزجاجة أحدث مجلداته عن تاريخ عائلته والمدينة التي ينحدرون منها، وقصص الحب التي عاشوها والحروب التي شهدوها، وكل ذلك من خلال النبيذ الذي يشربونه.