على رغم الغيوم الملبدة في سماء إيران، والتي تنذر بأن الحرب واقعة لا محال، فإن الردّ الإيراني على رسالة الرئيس الأميركي أعاد عقارب الساعة إلى الوراء. ففي هذا الردّ تأكيد بأن هدف طهران من تخصيب اليورانيوم غير عسكري، بل لأغراض تنموية. وانطلاقًا من هذه الواقعة يمكن رسم خارطة طريق جديدة في العلاقات غير المستقرّة بين واشنطن وطهران، مع ما تعنيه هذه التطورات من انعكاسات إيجابية على مستوى المنطقة، وبالأخصّ على الوضع اللبناني المتأثرّ كثيرًا بأي حدث يجري خارج حدوده.
فالمفاوضات غير المباشرة بين
الولايات المتحدة الأميركية وإيران قد تنجح وقد تفشل. وفي الحالتين فإن
لبنان سيكون الأكثر تأثّرًا من غيره، سلبًا أو إيجابًا. وعلى نتائج الجولة الجديدة من المفاوضات الثنائية يتوقف ما يمكن أن تقدم عليه واشنطن من خطوات متقدمة على الساحة
اللبنانية المتخمة بالمفاجآت. وآخر هذه المفاجآت اللهجة الجديدة لنائبة الموفد الأميركي إلى
الشرق الأوسط مورغان اورتاغوس، التي أوحت من خلال ما أعلنته، سواء داخل الغرف المغلقة أو في اللقاءات الثنائية بينها وبين كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة أو في لقاءاتها الموسّعة أو من خلال تصريحاتها الإعلامية، بأن ثمة قطبة مخفية تعمل واشنطن على بلورتها في ضوء ما ستسفر عنه مفاوضات سلطنة عُمان من نتائج.
ولأن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تراهن على ما يمكن أن ينتج عن تفاوضها غير المباشر مع الإيرانيين من اتفاقات وتفاهمات مستقبلية جاءت تصريحات أورتاغوس مبنية على معطيات جديدة. وهذا ما دفع مكاتب الاعلام في كل من القصر
الجمهوري و"عين التينة" والسراي الحكومي إلى وصف اللقاءات مع الموفدة الأميركية بأنها كانت إيجابية، خصوصًا أنها لم تحمل معها هذه المرّة إلاّ "جزرًا" على عكس المرّة السابقة، والتي حملت فيها عصا غليظة. فما الذي تغيّر بين هاتين الزيارتين لبيروت؟
ما تغيّر هو أن الرئيس الأميركي الذي
يحاول أن يكون رأس حربة في كل بقعة من بقاع الأرض، حيث للولايات المتحدة الأميركي تأثير مباشر أو غير مباشر. فإذا استطاع أن يحرز أي تقدّم في مفاوضاته مع إيران يكون قد قطع شوطًا متقدّمًا في مسيرته السياسية غير المستقرّة من خلال ما يتخذه من قرارات تنفيذية في ما يخص ما يفرضه من رسوم جمركية على جارتيه في شمال أميركا، أي كندا والمكسيك، وصولًا إلى دول الاتحاد الأوروبي والصين.
فمصلحة ترامب بخوض التجربة الديبلوماسية مع طهران للتوصل إلى تفاهم معها يوما ما تتقدّم على أي خيار آخر، وبالأخص الخيار العسكري، خصوصًا أنه لمس أن الإيرانيين باتوا متقبلين لفكرة انفتاح اقتصادي محتمل مع واشنطن. وبهذه الطريقة يمكنه أن يواجه ما قد يطرأ من مستجدّات وانعكاسات لقراراته الجمركية، وبالأخصّ مع الصين والدول التي تتماهى مع الاقتصاد الصيني.
من هنا يمكن فهم اللهجة المرنة التي خاطبت بها اورتاغوس الرؤساء الثلاثة، الذين أجمعوا على أن ما قدّمته من أفكار قد جاء من قبيل النصح أكثر منه من قبيل الفرض، وبالأخص عندما تحدّثت عن ضرورة نزع كل السلاح غير الشرعي من أيدي الجميع وليس فقط من أيدي "
حزب الله" غير المرتبط بجدول زمني، على ما أشارت إليه، وبالتالي فإن "حزب الله"، ووفق ما يتقصد تسريبه من انطباعات، بات على يقين أن ثمة مرحلة جديدة ومختلفة عن السابق عليه أن يتماشى أو يتعايش معها، على رغم أن أكثر من مسؤول فيه لا يزالون مصّرين على أن "المقاومة الإسلامية" قد حقّقت انتصارًا على إسرائيل. إلاّ أن ما أطلقه "الحزب" من إشارات ورسائل غير مشّفرة يوحي بأنه ليس في وارد العودة إلى استخدام السلاح في المواجهة مع إسرائيل، التي أثبتت تفوقها العسكري من خلال ما تملكه من تكنولوجيا متقدمة ومتطورة.
وما يمكن أن يتوقعه الأميركيون من المفاوضات غير المباشرة مع الإيرانيين هو التعهد بعدم استخدام المفاعل النووية لأغراض عسكرية، وتوقّف دعمها لحركة "حماس" في قطاع غزة، والحوثيين في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، و"حزب الله" في لبنان. إلا أن هذه التوقعات من الجانب الأميركي تبدو بالنسبة إلى الذين يدورون في الفلك الإيراني غير واقعية وغير منطقية، وإن كانت طهران تميل إلى عدم خوضها أي حرب بالمباشر لا مع إسرائيل ولا مع الولايات المتحدة الأميركية.