لمن لا يزال يتذكر جدلية "الأمن قبل الرغيف" أو "الرغيف قبل الأمن" يمكن إحالته إلى جدلية أخرى وهي "هونغ كونغ" أم "هانوي". هي جدليات لم تُحسم، لأن اللبناني لا يستطيع أن يعيش من دون أن يتوفّر له رغيف يأكله هو وأولاده بعرق الجبين. ولا يستطيع هذا اللبناني، أيًّا كان انتماؤه الطائفي أو الحزبي أو المناطقي، أن يأكل خبزه كفاف يومه بكرامة ومن دون منّة من أحد إن لم يكن أمنه العسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي مضمونًا، ولو بحدّه الأدنى.
ولأن
لبنان لا يستطيع أن يكون "هونغ كونغ" الشرق مع غلبة نظرية "هانوي" على سائر النظريات تأتي الاعتداءات
الإسرائيلية اليومية لتزيد الطين اللبناني بلة، خصوصًا بعد اتفاق لوقف النار قد وافق عليه لبنان الرسمي بعدما أعطى "
حزب الله" موافقته الطوعية على ما جاء في هذا الاتفاق، الذي أبرمه الجانب الأميركي الممثّل آنذاك بآموس هوكشتاين، الذي فاوضه الرئيس
نبيه بري وفريق عمله على مدى أيام. وقد سبق أن أشار أكثر من معني بما ورد في هذا الاتفاق من بنود يمكن اعتبارها نوعًا من تسليم "حزب الله" بالأمر الواقع، الذي فرضته تل أبيب بالبارود والنار، وهي التي لم تذعن لما صدر من مواقف دولية تشجب ما تقوم به من اعتداءات طاولت
البشر والحجر.
ويعود بنا الحديث إلى
البدايات، حيث تتصدّر مشهدية جديدة، وهي الأمن والسيادة قبل الإصلاحات أو العكس. هي جدلية لن ينتهي التفاعل معها، سلبًا أو إيجابًا، بين
ليلة وضحاها، خصوصًا أن نائبة المبعوث الأميركي إلى
الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس أفهمت الذين التقتهم بأن الأمن والإصلاحات السياسية والمالية والاقتصادية هما كأسنان المشط. فلا الأمن يتقدّم على الاصلاحات ولا الإصلاحات تتقدّم على الأمن بمفهومه السيادي. وهنا يختلط حابل الأمن بنابل الإصلاحات.
إلاّ أن مفهوم الأمن مختلف عليه لبنانيًا. فهو بالنسبة إلى شريحة واسعة من اللبنانيين لا يمكن أن يكون مؤمّنًا ومضمونًا إن لم تنسحب
إسرائيل من كل شبر من الأراضي
اللبنانية، التي لا تزال تحتلها. ويضاف إلى هذه المسألة وجوب
التزام تل أبيب بمندرجات اتفاق وقف النار، ووقف اعتداءاتها اليومية على الأهالي في قراهم الأمامية.
أمّا هذا المفهوم بالنسبة إلى شريحة واسعة أيضًا من اللبنانيين فتضاف إليه مسألة جوهرية تتعلق بسلاح "حزب الله" بعدما أثبتت الأحداث الدراماتيكية الأخيرة أن هذا السلاح لم يستطع أن يحمي لبنان من عدوانية إسرائيل، ولم يقدر أن يحمي أيضًا بيئته، التي تضرّرت في شكل أساسي. فإذا لم يتجاوب "حزب الله" مع ما يطالب به
المجتمع الدولي من إجراءات تفضي حتمًا إلى تسليم سلاحه بطريقة أو بأخرى، وهذا ما يعمل عليه رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون بالتنسيق مع الرئيس
بري، فإن إسرائيل لن تنسحب من التلال الخمس التي لا تزال تحتلها. وإذا لم تنسحب إسرائيل من دون شروط من هذه التلال فإن "حزب الله" لن يساوم على سلاحه، وهو بالتالي لن يقدّم هذا السلاح هدية للأميركيين على طبق من فضة.
على الساحة السياسية رأيان. الأول لأصحاب نظرية أن الإصلاحات والأمن يسيران جنبًا إلى جنب من دون أن يكون لواحد منهما أفضلية المرور. أمّا أصحاب نظرية أن الأمن يأتي أولًا، ومن بعده يصبح بند الإصلاحات تحصيلًا حاصلًا. وبين هذين الرأيين فإن منطق الأشياء يقول بأن الإصلاحات تبقى شعارًا وعنوانًا كبيرًا من عناوين المرحلة المقبلة إن لم تنسحب إسرائيل من كل شبر احتلته في حربها على لبنان، وبالتوازي إن لم يسلّم "حزب الله" سلاحه للدولة. فلا إصلاحات من دون أمن كعنوان عريض من عناوين عهد
الرئيس عون. ولكي يكون لهذه الإصلاحات جدوى اقتصادية من شأنها أن تنقل البلاد من ضفّة التهالك والانهيار إلى ضفة التعافي على الحكومة أن تلعب دورًا محوريًا في مكافحة الفساد بكل أشكاله المتعدّدة.
وفي رأي أكثر من مسؤول سابق فإن مكافحة الفساد بمعناه العام لن يصبح واقعًا يمكن للبنان من خلاله أن يطّل على العالم الخارجي بوجه جديد ما لم يقتنع جميع اللبنانيين بأن مؤسسات الدولة ليست بقرة حلوبًا، أو دجاجة تبيض ذهبًا. وللوصول إلى هذه الغاية المنشودة لا بدّ من أن يكون التعاون والتنسيق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية تامّا ومنسّقًا ومن دون خلفيات لتمرير مشروع تكامل الأدوار بين الخاص والعام.