في ظل أجواء الحرب وغياب الاستقرار السياسي، يشهد
لبنان أزمةً خانقة في قطاع الإيجارات، تكاد تعيد إلى الأذهان ذكريات الحرب وما رافقها من موجات نزوح جماعي. بعد الضربة الثانية التي شنّها الجيش
الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية، تصاعدت وتيرة الطلب على المنازل المعروضة للإيجار بشكل غير مسبوق. بات العثور على منازل خالية شبه مستحيل، خاصة في المناطق التي كانت تاريخيًا تعتبر ملاذًا آمناً للنازحين، مثل منطقة
الجبل التي تحتضن العدد الأكبر منهم.. وفي ظل الضغط المتزايد على سوق الإيجارات، ارتفعت أسعارها بصورة جنونية مرة أخرى اليوم. المنزل الذي كان إيجاره لا يتعدى 250 دولارًا سابقًا، بات يُؤجر الآن بحوالي 700 دولار، بل وتجاوزت الأسعار في بعض المناطق حاجز الـ 1200 دولار. وتتشابه هذه الظاهرة مع تلك التي شهدها لبنان خلال الضربات
الإسرائيلية العنيفة السابقة، حين كان العثور على منزل شاغر بمثابة مهمة مستحيلة.
وفقًا لتقرير التنقل الصادر عن
المنظمة الدولية للهجرة (الجولة 81) والذي اطّلع عليه "لبنان24"، فإنه اعتبارًا من 20 آذار، ظلَّ 96037 شخصًا نازحين خارج مناطقهم الأصلية، بينما عاد 961209 شخصا إلى مناطقهم الأصلية في جنوب لبنان. هذا التفاوت الكبير في الأرقام
يعكس واقعًا مريرًا تعيشه المناطق المتضررة، لا سيما أن الارتفاع في عدد
النازحين يعود بشكل مباشر إلى الاشتباكات الأخيرة على طول الحدود في
محافظة بعلبك الهرمل، حيث تضاعف عدد النازحين داخليًا في
قضاء الهرمل من 25 شخصًا فقط إلى 4830 شخصًا. كان من
الآثار المباشرة لتصاعد الأعمال العدائية الاولى النزوح الجماعي السريع، حيث نزح حوالي 1.2 مليون شخص وفقًا لمكتب إدارة مخاطر النزوح. ومن هؤلاء، تم إيواء حوالي 186,009 شخصًا في 1,009 ملاجئ جماعية موزعة في كل أنحاء لبنان. ورغم اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في 27 تشرين الثاني 2024، إلا أن العودة إلى المناطق المتضررة كانت محدودة بسبب الدمار والتحذيرات الأمنية المستمرة.
"لبنان24" تواصل مع عدد من سماسرة العقارات في منطقة الجبل، الذين وصفوا الوضع الحالي بأنه "أزمة خانقة مشابهة للأزمة السابقة لكن من دون إعلان الحرب بشكل رسميّ". يقول سمسار عقارات في عاليه: "الأمر لم يعد يتعلق فقط بارتفاع الأسعار، بل أيضًا بندرة المنازل المتاحة. حتى المنازل غير المؤهلة للإيجار أصبحت مطلبًا للنازحين الذين يفضلون الاستقرار في الجبل بعيدًا عن مناطق النزاع". ويضيف سمسار آخر من منطقة
بعبدا: "الطلب يتزايد بشكل يومي، ولا يمكننا تلبية كل المتقدمين بطلبات للإيجار. لقد وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها كل منزل فارغ يعتبر كنزًا. الإيجارات تتضاعف، لكن الطلب لا يتوقف".
من ناحية أخرى، فإن الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها لبنان منذ سنوات فاقمت من حدة أزمة الإيجارات الحالية، حيث أصبح كثير من المواطنين غير قادرين على تحمّل تكاليف الإيجار المتزايدة بشكل يومي. يشير خبراء اقتصاديون إلى أن التضخم المستمر وارتفاع أسعار السلع الأساسية يلعبان دوراً أساسياً في تعقيد المشهد، خاصة في ظل انهيار العملة المحلية وعدم استقرار سعر الصرف. ورغم محاولات بعض الجمعيات الأهلية والمنظمات غير
الحكومية تقديم مساعدات عاجلة للنازحين والعائلات المتضررة، إلا أن الجهود المبذولة لا تزال محدودة مقارنة بحجم الأزمة. يتحدث أحد النازحين لـ"لبنان24" من منطقة الجنوب قائلاً: "بحثت عن منزل لعائلتي لمدة أسبوعين دون جدوى، وعندما وجدت منزلاً متواضعًا كان الإيجار المطلوب يفوق قدرتي بأضعاف. نحن لا نواجه فقط مشكلة النزوح، بل صراعًا يوميًا مع الجوع والفقر". ويرى مراقبون أن الضغط الحالي على سوق الإيجارات قد يؤدي إلى تفاقم النزاعات الاجتماعية بين النازحين والمجتمعات المضيفة، ما لم تتخذ الحكومة إجراءات استباقية عاجلة لاحتواء الأزمة. وهذا ما أكّد عليه تقرير سابق لـ"لبنان24" تحت عنوان " لبنان في قبضة الجوع.. بعد الدمار سكان في مواجهة انعدام الأمن الغذائي"، إذ رأى الخبراء الاقتصاديون أن الأزمة لن تُحل قريبًا، خاصة في ظل ضعف السياسات الحكومية الحالية وعدم وجود خطة اقتصادية واضحة. ونصح المختصون بضرورة إعادة بناء القطاع الزراعي وتقديم الدعم للمزارعين، بالإضافة إلى تعزيز التعاون مع المنظمات الدولية للحصول على المساعدات الفنية والمالية اللازمة لتخفيف حدة الأزمة وضمان الأمن الغذائي للسكان، بالاضافة إلى توفير موارد عمل.
بالإضافة إلى ذلك، تسود مخاوف كبيرة من أن يؤدي الوضع الحالي إلى خلق أزمات طويلة الأمد في لبنان، ليس فقط على صعيد الإسكان، بل أيضًا على المستوى الأمني والاجتماعي. فالهجرة
الداخلية المتزايدة باتت تضغط على البنية التحتية المتهالكة بالفعل في المناطق التي تستقبل النازحين. المدارس والمستشفيات والخدمات العامة تواجه تحديات غير مسبوقة في ظل التكدس السكاني المفاجئ. ويرى مختصون في التخطيط الحضري أن غياب استراتيجية وطنية واضحة للتعامل مع هذا النزوح سيؤدي إلى عواقب كارثية على المدى البعيد.