قد لا تكون زيارة رئيس الحكومة نواف سلام إلى دمشق الأولى من نوعها بعد سقوط نظام بشار الأسد، وتولّي الرئيس أحمد الشرع مسؤوليّة المرحلة الانتقالية، فقد سبقه إلى هذه الخطوة رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، وكذلك رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط، وغيرهما، إلا أنّ أهميتها تكمن في أنّها أول زيارة لرئيس حكومة مكتملة الصلاحيات، وفي ظلّ انتظام المؤسسات الدستورية في الداخل اللبناني.
ترجم ذلك في البيان الذي صدر عن رئاسة الحكومة
اللبنانية، حيث أشار سلام إلى أنّ الزيارة التي قام بها إلى
سوريا على رأس وفد ضم
وزراء الخارجية يوسف رجّي، والدفاع ميشال منسّى، والداخلية أحمد الحجار، من شأنها "فتح صفحةٍ جديدة في مسار العلاقات بين
البلدين على قاعدة الاحترام المتبادل واستعادة الثقّة، وحسن الجوار، والحفاظ على سيادة البلدين وعدم
التدخل في الشؤون الداخليّة فيما بينهما، لأنّ قرار سوريا للسوريين وقرار
لبنان للبنانيين".
ولعلّ في هذه العبارات إشارة "ضمنية" إلى أهمية "معنوية" للزيارة، فرئيس الحكومة أراد أن تكون زيارته "محطّة تأسيسية"، ليس فقط لحلّ الكثير من الملفّات العالقة بين الجانبين اللبناني والسوري، والتي قد يحتاج بعضها لجلسات مطوّلة من النقاش، ولكن قبل ذلك، لتصحيح العلاقات بين البلدين، بعيدًا عن النهج الذي كان قائمًا في السابق، والذي كان عنوانه "الهيمنة والاستزلام"، وهي سمات اتسمت بها خصوصًا مرحلة الوصاية
السورية على لبنان..
ملفات على طاولة البحث
على طاولة البحث بين سلام والشرع، طُرِحت الكثير من الملفّات، التي تُعَدّ أساسيّة لتصويب العلاقات بين الجانبين اللبناني والسوري، لعلّ أولها ما يرتبط بالوضع الأمني، بما في ذلك ترسيم الحدود البرية والبحرية، وضبط المعابر، ولا سيما غير الشرعية منها، ومنع التهريب، علمًا أنّ هذه الزيارة جاءت بعد اجتماع لبناني سوري على مستوى وزراء الدفاع، عقد برعاية سعودية، في 27 آذار الماضي في جدة، ومهّد الطريق أمام تخفيف التوتر الذي سُجّل على الحدود.
ومن الملفات الأساسية التي حضرت أيضًا على طاولة النقاش، ملفٌ عودة اللاجئين السوريين في لبنان إلى بلدهم، وهو ملفّ يوليه الجانب اللبناني اهتمامًا خاصًا، وكذلك مصير المفقودين والمعتقلين اللبنانيين في سوريا، والذي يبقى بلا معالجة جدّية، في حين أثار الجانب السوري ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية، إلى جانب المطالبة بالمساعدة في ملفات قضائية عدّة، وتسليم المطلوبين للعدالة في لبنان، على خلفية جرائم يُتهَم بها نظام الأسد.
وبطبيعة الحال، لم يغب الشأن الاقتصادي عن طاولة النقاش بين الرئيس السوري ورئيس الحكومة اللبناني، حيث جرى البحث في التعاون بالمجالات المختلفة، وفتح
خطوط التجارة الترانزيت، وفي استجرار النفط والغاز، والنظر في خطوط الطيران المدني، وغيرها، إلا أنّ "طيف" المجلس الأعلى اللبناني السوري كان مهيمنًا، في ضوء اتفاق على إعادة النظر به، ولا سيما أنّه لطالما صُنّف، لبنانيًا على الأقلّ، كواحدة من أدوات الوصاية السورية على لبنان.
ما بعد الزيارة يبقى الأهمّ
يقول العارفون إنّ الزيارة بحدّ ذاتها تكتسب أهمّية كبرى، باعتبار أنّ البحث فيها تطرّق إلى مختلف الملفات الشائكة والنقاط العالقة، حيث تمّ وضع النقاط على الحروف، وقد حرصت الأوساط
الحكومية اللبنانية والسورية على السواء، على وصفها بالإيجابية والبنّاءة، إلا أنّ الأهمّ يبقى وفق هؤلاء، في المسار الذي ستتّخذه الأمور العملية ما بعد الزيارة، علمًا أنّه تمّ الاتفاق على تشكيل لجنة وزارية من البلدين لمتابعة كل الملفات ذات الاهتمام المشترك.
بهذا المعنى، يشدّد العارفون على أنّ "التحدّي" يبقى في النهج الذي سيتبع هذه الزيارة، علمًا أنّ المعطيات المتوافرة تشير إلى أنّ الزيارة كانت "محطّة تأسيسية" يفترض أن تستكمل في المرحلة المقبلة بسلسلة من الخطوات، سواء على صعيد عمل اللجنة المشتركة التي تمّ تأليفها، وربما تشكيل لجان أخرى متخصّصة، أو على صعيد تبادل الزيارات، في وقت تشير المعلومات إلى زيارات مرتقبة للعديد من الوزراء إلى سوريا، لبحث ملفات مرتبطة بوزاراتهم مباشرة.
ويشدّد العارفون على أنّ الهدف الأهمّ من الزيارة، والذي سيخضع للاختبار في المرحلة المقبلة، كان فتح "صفحة جديدة" في مسار العلاقات الثنائية، وبالتالي تصحيح "الخلل" الذي شابها لعقود، مشيرين إلى أنّ هناك فرصة جدّية اليوم من أجل طيّ صفحة الماضي بالمُطلَق، وإقامة علاقات ندية تعود بالفائدة على البلدين، على قاعدة حسن الجوار، واحترام سيادة كلّ بلد، ومنع أيّ خروقات من هنا أو هناك، ما يمكن أن يفتح المجال للمزيد من التنسيق والتطوير.
في النتيجة، يمكن الحديث عن عنوانين أساسيّين في زيارة الرئيس نواف سلام إلى سوريا: أولهما تصحيح الخلل الذي شاب العلاقات الثنائية على مدى عقود، ساد خلالها مفهوم الهيمنة، الذي تفرّعت عنه مفاهيم عدّة من الاستزلام إلى الفساد، وثانيهما، وهو الأساس، التأسيس لصفحة جديدة، يمكن أن تفتح العلاقات على أفق جديد، أفق سيخضع لاختبار "حسن النوايا" في المرحلة المقبلة، التي يأمل اللبنانيون والسوريون أن تكون لصالح البلدين الجارين!