رغم ضجيج التصريحات الرسمية حول الاستحقاقات البلدية ، يعيش لبنان حالة من التراخي الانتخابي، أشبه بانتظار موعد قد لا يأتي. وفي خلفية هذا المشهد المعقّد، يقف حزب الله كأحد أبرز المتضررين من هذا الجمود، لا سيّما في مناطقه الجنوبية التي تعاني فراغاً إدارياً قاتلاً وسط تصعيد عسكري دائم مع إسرائيل، وانهيار شبه كامل في البنى التحتية والخدمات. الانتخابات البلدية، التي يفترض أن تكون استحقاقاً دورياً كل ست سنوات، تحوّلت إلى ورقة سياسية مرهونة بظروف "غير ملائمة" تارة أمنية وتارة لوجستية، لكنها في الواقع تعبّر عن عمق أزمة النظام الذي بات يهاب صناديق الاقتراع. فالتأجيل لم يعد مجرد خيار بل صار عادة، والبلديات المجمّدة أو المفككة تترك فراغاً يثقل كاهل المجتمعات المحلية، وخاصة في المناطق التي كانت تعتمد تاريخياً على البلديات كركيزة شبه وحيدة للخدمات اليومية.
حزب الله، على يقين، أنّ هذه الانتخابات لا تشبه أي انتخابات سابقة، فهو يجد نفسه اليوم مكبّلاً أمام واقع إداري هشّ في مناطقه، حيث لا يستطيع تفعيل
المجالس المحلية الممددة ولا إجراء انتخابات جديدة وسط هذا الفراغ القانوني والمالي. كما أن استمرار الشلل يفاقم أزمة الثقة بينه وبين قاعدته
الشعبية التي تطالب بخدمات، لا شعارات، لكنّه يرى أن خوض غمار انتخابات شاقة يبقى أفضل من الابقاء على كل شيء مؤجل إلى إشعار غير مسمى، بينما
القرى والبلدات، من الجنوب إلى
البقاع، تعيش على فتات إداري، وأزمة مالية خانقة.
قد يبدو في الظاهر أن التأجيل مصلحة سياسية لقوى كبرى، لكن الواقع أن حزب الله، الذي لطالما قدّم نفسه كمدافع عن بيئته، يواجه اليوم مأزقاً داخلياً حاداً. فغياب الدولة عن مسؤولياتها يحمّله تلقائيًا أعباء إضافية، وهو لم يعد قادراً على تغطية الفجوات كلها، لا أمنياً ولا خدمياً، فالانتخابات المقبلة، لن تكون مجرد استحقاق إداري. إنها لحظة فرز حقيقي في بيئة سياسية منهكة. أما إذا تأجلت مجددًا، وهذا الخيار بات مستبعدا، فستكون
حلقة إضافية في
سلسلة طويلة من الانهيارات، يدفع ثمنها الناس أولاً، وأحزاب السلطة لاحقاً.
ورغم الفوضى التي تكتنف الاستحقاق البلدي، فإن حزب الله يبدو الوحيد تقريباً الذي دخل هذه المرحلة بحالة من الجهوزية. بالنسبة له، الانتخابات ليست عبئاً، بل فرصة. فهي مناسبة لتجديد البيعة الشعبية في مناطقه، واستعراض حجم الحضور والثقة التي لا تزال قواعده تبادلها له، رغم كل الظروف الضاغطة. وهو لا يخفي طموحه في تحويل هذا الاستحقاق المحلي إلى رسالة موجهة للخارج، مفادها أن الحزب ما زال القوة السياسية الأكثر تماسكاً وتنظيماً في لبنان، على عكس باقي القوى المترنحة بين الخلافات والضياع التنظيمي. وعليه، ترى مصادر أنّه بالنسبة إلى حزب الله، الانتخابات البلدية المقبلة تتعدى كونها مجرد استحقاق محلي روتيني. إنها فرصة استراتيجية مزدوجة، يسعى من خلالها لتثبيت حضوره السياسي في الداخل، وتوجيه رسالة واضحة للخارج. فبعد الأشهر الماضية التي شهدت تصعيداً عسكرياً مع إسرائيل، ومحاولات متكررة من قِبل بعض الجهات الدولية لعزله أو تقليم أظافره عسكرياً، يبدو الحزب أكثر إصراراً على
القول: "قد تُحاصروننا ميدانياً، لكننا ما زلنا الرقم الصعب شعبياً.
وفي هذا الإطار، يشكّل
التحالف مع حركة أمل حجر الأساس في الاستراتيجية
الانتخابية للحزب، حيث يعمل الطرفان على توزيع الأدوار وتنسيق اللوائح، خاصة في القرى والمدن التي قد تشهد منافسة محتدمة. فالغاية ليست فقط الفوز بالمجالس، بل الحفاظ على صورة
الجبهة الشيعية الموحدة في مواجهة أي اختراقات محتملة، سواء من قوى معارضة محلية أو بدعم خارجي.. إنها
معركة إثبات وجود بوسائل مدنية، بعدما فُرض عليه التراجع عسكرياً إلى حدّ ما.
لكن
الرسالة ليست فقط للخارج. داخلياً، الحزب مدرك تماماً أن بيئته تنتظر منه أكثر من الشعارات. إنها تتطلع إلى نتائج ملموسة في مواجهة الانهيار، وإلى سلطة محلية فعالة لا تُدار بالنيابة، هذا عدا عن عملية إعادة الإعمار. ومن هنا تأتي أهمية هذه الانتخابات بالنسبة له: استعادة المبادرة، وتأكيد الثقة داخل شارعه، وإعادة إنتاج شرعيته من بوابة صناديق الاقتراع، في وقت تشهد فيه البلاد حالة من التآكل السياسي وفقدان
الأمل.