شدد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على ان "المشرق لطالما كان نموذجا للتعددية والتسامح الديني، وصار نموذجا فريدا للتفاعل الثقافي والغنى الروحي والمعرفي، ما يقتضي منا جميعا، وخصوصا المسيحيين والمسلمين، المحافظة عليه وحمايته في إطار احترام حرية المعتقد والرأي والتعبير وحق الاختلاف، ورفض التطرف الديني والقتل والتهجير باسم الدين والله".
واكد الرئيس عون انه "سيكون مدافعا عن تجربة العيش المشترك والتوازن والاحترام المتبادل بين مكونات الشعب اللبناني، وسأسعى مع الجميع إلى ولادة حكومة تعكس رغبات هذا الشعب، وتوازناته، وتوصل صورة مشرقة إلى العالم عن عزمنا الأكيد كمسؤولين سياسيين، على السير قدما في مشروع النهوض بالوطن، والاصلاح، والشفافية، ومواجهة الفساد والمفسدين".
ولفت الى ان "النزف البشري المسيحي في الشرق يجب أن يتوقف، والى ان السلطات السياسية والروحية مدعوة لاتخاذ ما يلزم من إجراءات لمنع تفريغ الأرض من أهلها"، مشيرا الى ان "أي مشروع يرمي لخلق مجتمعات عنصرية تقوم على الآحادية الدينية أو العرقية، هو مشروع حرب لا تنتهي".
مواقف رئيس الجمهورية أتت خلال تدشين المقر البطريركي الجديد للكنيسة السريانية الارثوذكسية في بلدة العطشانة- بكفيا، حيث دون كلمة في السجل الذهبي جاء فيها:
"على خطى الآباء والاجداد، نذر السريان انفسهم في هذا الشرق، على الرغم من غمار الصعاب واهوال المجازر، لخدمة الحكمة الالهية، فكانوا رسل القيامة، في لبنان وعالم الانتشار.
أنتم حاجة لبنان، وطن الرسالة، إلى الشهادة لحقيقة وجوده.
اليوم، اذ اشارككم، بطاركة واساقفة وآباء واخوة، فرحة تدشين المقر الجديد لبطريركية انطاكيا وسائر المشرق للسريان الارثوذكس في العالم، ارفع دعائي لتواصلوا مسيرة الامانة لرسالتكم.
فعلى اسمها، لكم جميعا تقدير العائلة اللبنانية".
كلمة عون
وبعد حفل التدشين، القى الرئيس عون الكلمة التالية:
"يسرني أن أكون حاضرا افتتاح مقر جديد لبطريركية أنطاكيا وسائر المشرق للكنيسة السريانية الأرثوذكسية، لما يحمل هذا الحدث من تشبث بالأرض والجذور، وتثبيت للوجود والهوية، ومن حيث هو رد على كل محاولات تفريغ المشرق من بعض مكوناته ورسالة واضحة لمن خطف المطرانين العزيزين يوحنا ابراهيم، إبن هذه الكنيسة، وبولس اليازجي.
إن مسيحيي المشرق ليسوا بطارئين على هذه الأرض ولا هم جاليات غريبة فيها، ولا يمكن أن يسمحوا لأي ظرف أو أي معاناة أن تقتلعهم منها؛ فهم أهلها وناسها. من هنا انطلقت البشارة، على خطى بولس والرسل، من هنا انطلقوا ليتلمذوا جميع الأمم، حاملين رسالة السيد المسيح من المشرق الى الكون.
صحيح أن في التاريخ والحاضر جراحا كثيرة، ولكن فيهما أيضا حقبات مجيدة أعطت العالم ثقافة وفكرا وحضارة من أغنى الحضارات.
نعم، لقد سالت الدماء غزيرة على هذه الأرض وقدم السريان مئات آلاف الشهداء ومثلهم قدم الأرمن ومسيحيو جبل لبنان، فمن المجازر الحميدية أيام السلطان عبد الحميد الثاني بين عامي1894 و 1896 التي سقط فيها أكثر من ثلاثمئة ألف شهيد، الى المذابح التي جرت خلال الحرب العالمية الأولى وتركت قرابة مليون ونصف مليون شهيد من السريان والأرمن والاشوريين والكلدان والتي أسماها السريان مذابح سيفو، يضاف إليهم شهداء المجاعة في لبنان، وصولا الى حرب الإرهاب الحالية والمستمرة منذ سنوات في المنطقة، والتي كان فيها المسيحيون ضحية للعنف الطائفي في حملة ممنهجة ومنظمة لاقتلاعهم من أوطانهم ومن جذورهم، وبشكل خاص في العراق وسوريا، بعد أن كانت قد سبقتهم فلسطين، وسط صمت المجتمع الدولي، فاستشهد منهم من استشهد وخطف من خطف وشرد من شرد. أما معظم من تبقى فبدأ رحلة البحث عن وطن بديل، وهكذا فرغت مدن وقرى بكاملها من مسيحييها. ولكن، هذا النزف البشري يجب أن يتوقف، والسلطات السياسية والروحية مدعوة لاتخاذ ما يلزم من إجراءات لمنع تفريغ الأرض من أهلها، فلا مياه تنساب إذا جف النبع، وأي مشروع يرمي لخلق مجتمعات عنصرية تقوم على الآحادية الدينية أو العرقية هو مشروع حرب لا تنتهي.
إن المشرق هو مهد الفكر الديني، أعطى العالم الديانات الكونية وأوصلها لجميع الشعوب وجميع الأعراق. ولطالما كان نموذجا للتعددية والتسامح الديني، وقد عاش المشرقيون تنوعهم واغتنوا به وصار نموذجا فريدا للتفاعل الثقافي والغنى الروحي والمعرفي، يقتضي منا جميعا، وخصوصا المسيحيين والمسلمين، المحافظة عليه وحمايته في إطار احترام حرية المعتقد والرأي والتعبير وحق الاختلاف، ورفض التطرف الديني والقتل والتهجير باسم الدين والله.
لقد درجت العادة على إطلاق تسمية أقليات على بعض الطوائف في لبنان ومنها السريان، ونتج عن ذلك حرمانها من بعض حقوقها السياسية كما من بعض الوظائف العامة.
من الخطأ مقاربة الواقع اللبناني من منطلق أقليات وأكثريات، فهذه البلاد منذ فجر التاريخ كانت أرض تلاقٍ لشعوب ومجموعات دينية تهرب من اضطهاد وتبحث عن ملاذ آمن، وكم من أكثرية باتت أقلية وبالعكس؛ في الحقيقة كلنا أقليات، تجمعنا المواطنة والهوية، وكلنا مكون أساس من مكونات الشعب اللبناني.
لذلك كان سعيي الدائم منذ كنت رئيس تكتل التغيير والإصلاح لكي يكون للسريان ولسائر المكونات الموضوعة في خانة الأقليات، حضورهم في السلطة وتمثيلهم الحقيقي في مجلس النواب، وسأستمر في هذا المسعى كي لا يبقى أي مكون من مكونات مجتمعنا يشعر بالغبن أو بأن حقوقه في الوطن لا تتساوى مع حقوق سواه.
علمتنا التجارب أن الشعور بالقوة أو بالاستقواء من قبل طرف، أو مذهب، أو حزب في لبنان، يخلق عاجلا أم آجلا، عدم توازن واستقرار في الحياة السياسية، لا بل أحيانا اضطرابات أمنية. واضعا نصب عيني الوقوف، من موقع مسؤوليتي، مدافعا عن تجربة العيش المشترك والتوازن والاحترام المتبادل بين مكونات هذا الشعب، سأسعى مع الجميع إلى ولادة حكومة تعكس رغبات الشعب اللبناني، وتوازناته، وتوصل صورة مشرقة إلى العالم عن عزمنا الأكيد كمسؤولين سياسيين، على السير قدما في مشروع النهوض بالوطن، والاصلاح، والشفافية، ومواجهة الفساد والمفسدين.
"أنت الصخرة يا بطرس وعلى هذه الصخرة أبني بيعتي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها"... بهذه الكلمات أعلن السيد المسيح تأسيس الكنيسة، القائمة على صخرة الإيمان، الحاملة رسالة المحبة، المقاومة للباطل، المقاتلة من أجل شهادة الحق والحقيقة، والمستمرة بالرجاء...
هذه هي مصادر إشعاع المسيحية وسر قوتها وديمومتها، باقترابنا منها ننقل الجبال، وبابتعادنا عنها نضيع الطريق.
وإن كنا ونحن تحت التراب نرقد على رجاء القيامة، فلسنا نحن من ستحبطه صعوبات أو ستثني عزيمته عراقيل ومعوقات.
عشتم، عاشت الكنيسة المشرقية، عاش لبنان".