دخل التأليف شهره الثاني وسط انشغال الوسط السياسي بالقضية المركزية التي تحكم سقوف تفاوضه على حكومة العهد، وهي "الحصص" وليس كيفية مواجهة التحديات والمخاطر التي تواجه لبنان، وفي مقدمها الوضع الاقتصادي والمالي وما يتردد عن احتمالات الانهيار أو الإفلاس، ومن دلائله – إلى التقارير الدولية السلبية والمقلقة – موجة إفلاس في شركات عقارية وتجارية وكساد مواسم زراعية مع ما يعنيه ذلك من معاني.
أولى الصرخات كان أطلقها البطريرك الماروني بشارة الراعي يوم نبّه من قصر بعبدا في آذار الماضي من أن "البلد مفلس وليتحمل الجميع مسؤولياته فبلدنا يتجه نحو الخطر"، قبل أن تكر سلسلة كبيرة من التحذيرات والمؤشرات المقلقة، ومنها تقرير صندوق النقد الدولي ومؤسسات التصنيف الدولية "موديز" التي ذكرت بأخطار تنامي المديونية وارتفاع نسبتها إلى الناتج المحلي، في ظل كلفة فوائد مرتفعة وتباطؤ في النمو، ولا يخفى أن لهذه المخاوف ما يبررها إن لناحية الهشاشة الداخلية على كل المستويات، أو الضغوط الناتجة عن تداعيات أزمة النزوح التي تتم مواجهتها بخطاب شعبوي متهافت، أو لناحية التأزمات الإقليمية وما يواكبها من حديث عن تحريك لملفات كبرى وتسويات منتظرة.
إشارة إلى أن دين لبنان مصنف في المرتبة الثالثة عالمياً على صعيد نسبة المديونية إلى الناتج المحلي الاجمالي والتي يقدرها صندوق النقد الدولي بنحو 152,3 % بعد اليونان واليابان.
وفي تقرير صندوق النقد أيضاً تحذير من التباطؤ في ضبط الوضع المالي، ودعوة إلى اعتماد سياسة تهدف إلى استقرار الدين العام قياساً على الناتج المحلي، ودون ذلك تحذير من تبخر المساعدات والقروض التي نالها لبنان في مؤتمر "سيدر". يضاف إلى ذلك، صرخات اصحاب مصانع ومؤسسات سياحية وجمعيات تجار ومزارعون يشتكون من الركود والمنافسة غير الشرعية والتهريب من دون ضوابط ومزاحمة اليد العاملة الوطنية من أخرى غير لبنانية بشكل وسّع قاعدة البطالة وزاد من رقعة الفقر والتراجع الاقتصادي المخيف.
والواقع أن ثمة هوة كبيرة تفصل بين الهموم والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وحتماً الأمنية التي يعاني منها لبنان، وبين اهتمامات الطبقة السياسية التي اعتادت اتخاذ مواقع السلطة باباً للتكسب وانتهاب المال العام، وهي اليوم تمارس جشعها من باب المطالبة بحصص وحقائب وازنة ودسمة تحت عنوان صحة التمثيل الطائفي. فإزاء كل ما ذكر، تكتفي السلطة بالتقليل من أهمية التحذيرات الصادرة عن المؤسسات الدولية، بل وتدرجه في سياق الصراعات السياسية الداخلية المعتادة، ثم تمضي لمزيد من طلب المساعدات الخارجية، متناسية أن أولى توصيات مؤتمرات الدعم، سيدر مثلاً، هي أن التمويل مشروط بالإصلاح، وهو ما أعادت التذكير به المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل خلال زيارتها لبيروت الاسبوع الماضي.
المرحلة استثنائية، وتقتضي تالياً معالجات استثنائية في خياراتها وحلولها ومعالجاتها، وأولى المعالجات هو العودة إلى "المعايير" و"الضوابط" في العملية الدستورية والسياسية، من طريقة تشكيل الحكومة إلى آليات عملها إلى محاسبتها من قبل مجلس النواب، لا أن تكون مرآة له وعنه، فتغيب المحاسبة والرقابة.. المطلوب قبل الحديث عن حصص الرئاسات، تشديد على التمسك بالفصل بين السلطات وتفعيل الرقابة عليها، وهو التحدي الكبير أمام العهد لإنجاحه في السنوات المتبقية.
ندرك أن الآمال شيء، والواقع شيء آخر.. لكن المطلوب حكومة تعيد الثقة، تحقق آمال اللبنانيين بإصلاح ونهضة ومكافحة فساد.