منذ بضعة أيام، انتحر طفل سعودي من مدينة أبها، شنقاً، وأشيع أنّ لعبة "الحوت الأزرق" هي السبب، لكن عاد والده ونفى ذلك مصرحاً للإعلام أنّ "ألعاباً أخرى هي السبب في انتحاره"، من دون أن يكشف أي تفصيل عنها. ليس هذا الطفل هو الأول الذي يقدم على الانتحار بسبب لعبتي "الحوت الأزرق" و"مريم"، كما يرد في وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، إذ رُبطت عمليات انتحار أقدم عليها مؤخراً عدد من الأطفال والمراهقين من حول العالم بهاتين اللعبتين.
فما هي الحقيقة، وهل فعلاً تتسبب الألعاب الإلكترونية بانتحار الأطفال والمراهقين أو بارتكابهم جرائم مختلفة؟!
"الحوت الأزرق"
ظهرت لعبة "تحدي الحوت الأزرق" أو "الحوت الأزرق" منذ عامين تقريباً، وكان أول تسليط للضوء عليها من خلال مقال ظهر في الجريدة الروسية "نوفيا جازيتا" والذي ربط بين عشرات من حوادث انتحار المراهقين التي وقعت في روسيا بين تشرين الثاني 2015 ونيسان 2016 وهذه اللعبة. الشبكات الإجتماعية هي المنصة الرئيسية التي تجري فيها "الحوت الأزرق"، ويُعتقد أنّ من بين المحرضين عليها ثلاثة شبان روس: فيليب بوديكين (ويسمى أيضا فيليب فوكس)، فيليب ليس، بالإضافة إلى كيتوف. الأكيد أنّ مطوّرها هو "فيليب فوكس" الذي ألقي القبض عليه في العام 2016 وحُكم عليه في العام 2017 بثلاث سنوات من السجن بعد محاكمته في سيبيريا بتهمة التحريض على الانتحار.
وتتكون الحوت الأزرق (التي تحتاج للاتصال بالانترنت) من سلسلة من خمسين تحديا على اللاعب تنفيذها بعد أن يطلب منه ذلك، ومن ضمنها مثلاً الاستماع إلى موسيقى حزينة في الليل ومشاهدة أفلام الرعب ونقش الرمز "F57" أو رسم الحوت الأزرق على الذراع بأداة حادة والصعود إلى سطح المنزل أو الجسر بهدف التغلب على الخوف...وصولاً إلى المرحلة الأخيرة التي يطلب من المستخدم الصعود إلى مكان مرتفع والقفز منه أو الطعن بسكين. ولا يُسمح للمشتركين بالانسحاب من هذه اللعبة، وإن حاول أحدهم فعل ذلك فإنه يتعرّض للابتزاز والتهديد (يهدد القائمون على اللعبة المستخدم بقتل أحد أفراد عائلته أو على الأقلّ يوهمونه بذلك).
ويُعتقد أن "الحوت الأزرق" قد أدّى إلى انتحار أكثر من 150 مراهقاً حول العالم.
مريم
رغم أنّ هذه اللعبة "توضح" بنفسها لمستخدميها أنها ليست شبيهة بـ"الحوت الأزرق"، فإنها عملياً كذلك، سيّما وأنها تقوم أيضاً على تهديد المشترك وابتزازه بعد تخويفه ووضعه في حال نفسية صعبة. وتدور أحداث لعبة "مريم" حول طفلة تائهة تطلب من اللاعب إرشادها لتجد طريقها إلى المنزل، وذلك عبر توفير إجابات على أسئلة شخصية تخترق خصوصيته، وفقط عبر توفير هذه الإجابات يستطيع اللاعب الانتقال من مرحلة لأخرى. تتميز اللعبة بمرئيات ومؤثرات مرعبة تساهم في خلق أجواء من الرعب والتحكم بالعقول.
ماذا يقول الطب النفسي؟
يوضح الطبيب والمعالج النفسي د. مرام الحكيم أنّ الألعاب الالكترونية يجب أن يكون لها تصنيف بحسب الأعمار كي تلائمها وتكون مناسبة لكل عمر، موضحاً في حديث لـ"لبنان 24" أنّ "الأطفال الصغار هم عرضة للتأثر بالآخرين أو بالألعاب الإلكترونية أو الكتب أو القصص أو الأفلام.. أكثر من غيرهم، علماً أنهم يلجأون إلى التقليد في معظم الأحيان".
لكن، وبخلاف ما يُتداول إعلامياً أو في بين الناس، فإن الألعاب الإلكترونية ليست السبب الحكمي في أن يقدم طفل أو مراهق على الانتحار أو القتل بدليل أنّ ليس جميع الأطفال الذين يستخدمون مثل هذه الألعاب العنفية ينتهي بهم الأمر حكماً منتحرين أو قاتلين، يقول د. الحكيم.
"ما نراه هو أن نسبة ضئيلة هي التي تقوم بهذه الأفعال، ما يعني أنّ السبب ليس اللعبة بحدّ ذاتها إنما طبيعة شخصية الطفل أو المراهق والتي قد تُظهر مثلاً ميلاً كبيراً للتأثر بأفكار الغير وإيحاءاته أو قد تنطوي مثلاً على غضب شديد ودفين، بالإضافة إلى عامل الخلل في التربية والذي يساهم بدوره في دفع الطفل أو المراهق إلى محاكاة العنف والتماهي معه".
لكن هذا لا ينفي طبعاً حقيقة أنّ بعض الألعاب الإلكترونية يستخدم تقنيات معيّنة من خلال طريقة الكلام أو التكرار أو الصوت.. قادرة على التحكم بدماغ المستخدم وتعزيز التأثير السلبي عليه وخلق جوّ من الإيحاءات!
وبرأي د. الحكيم، فإن ترك الطفل والمراهق يستخدم الألعاب الالكترونية، سواء كانت عنفية أم لا، هو أمر مؤذ بحدّ ذاته، ذلك أنّها تضرب حياته الاجتماعية بسبب الإدمان الذي يمكن أن تخلقه وتبعده عن التفاعل مع المجتمع، وهي أيضاً تستحوذ على وقت دراسته أو الوقت المخصص لممارسة أنشطة ذهنية وجسدية وفكرية وبالتالي تضرب نموه الجسدي والنفسي، إضافة إلى قدرتها على غسل الدماغ وزرع قيم جديدة ونسف أخرى أو خلق إيحاءات جنسية غير مناسبة للطفل.
وطبعاً، تتسبب الألعاب الإلكترونية التي يدخلها العنف والدماء بترك مستخدمها اليافع في حال من الخوف والقلق وهذا ما يتمظهر من خلال عوارض شتّى منها الخلل في النوم أو الطعام أو التركيز.. ويكرر د. الحكيم أنه "عندما نتحدث عن أطفال صغار فإن الخطورة تغدو أكبر لأن الصغار يقلدون من دون أن يكونوا بالضرورة يعيشون حالة نفسية معينة أو خللا في التربية"!
وبالعودة إلى لعبتي "الحوت الأزرق" و"مريم"، فإن د. الحكيم يقرّ بأنه لم يطلع عليهما لذا لا يمكنه إعطاء رأي حاسم، لكنه يشير إلى نقطة أساسية وهي أنّ "اللعبتين تنطويان على عملية تهديد وابتزاز واستغلال"!
يكمل شارحاً:"قد تكون اللعبتان وسيلة ليس إلا، إذ إن جرم الابتزاز والتهديد كان يمكن أن يكون عبر الهاتف أو من خلال رسالة الكترونية أو مباشرة (من شخص لآخر)، وهو ما يضع الضحية، سواء كانت في عمر الطفولة أو الرشد، في وضع عصيب وضاغط قد يشعر فيه بالذنب (لأنه مثلا قدم معلومات خاصة عنه او عن عائلته ما سمح للمبتز بالتهديد بقتله أو قتل أحد أفراد العائلة)، فيلجأ بالتالي إلى التخلص من حياته أو ارتكاب جرائم تحت الضغط".
ويتابع د.الحكيم قائلاً: "لا يمكننا أن "نشيطن" الألعاب الإلكترونية بالشكل الذي يفعله الإعلام، لكن علينا أيضاً أن نعترف بسلبياتها ومخاطرها".
وعليه، ينصح الطبيب والمعالج النفسي ىالأهل بعدم السماح لأطفالهم باستخدام الهواتف الذكية للولوج إلى الألعاب الالكترونية المختلفة كما يشاؤون، بل عليهم أن يضعوا ضوابط صارمة وأهمها تخصيص وقت محدد لها على أن تكون أيضاً الألعاب ذات منفعة على نموه.
ولدى سؤاله عن السبب الذي يدفع الرضع إلى التوقف عن البكاء فور تشغيل تطبيق على الهاتف الخلوي وما إذا كنا قد وصلنا فعلاً إلى عصر يولد فيه الأطفال وفي أياديهم الهواتف الذكية، يوضح د. الحكيم أن الأمر طبيعي، ويقول: "في الماضي، كان الآباء يلجأون إلى ألعاب ملونة ومتحركة أو إلى سرد القصص أو الغناء بغية إلهاء الطفل أو ثنيه عن البكاء، أما اليوم فباتت الهواتف وسيلة بديلة وأكثر فعالية وسرعة وفي متناول اليد. وحتماً ليس هذا الأمر جيداً ذلك أن الرضيع يحتاج في هذه المرحلة من عمره إلى اللمس والتفاعل الشخصي أكثر من المرئيات والألوان الصادرة عن جهاز صغير".