بتكلفة فاقت المليون دولار أميركي، أخبرت الشركة الاميركية للاستشارات الاقتصادية "ماكينزي" اللبنانيين أنّ تشريع الحشيشة هو أحد الوسائط المساهمة في حلّ أزمة انهيار الاقتصاد اللبناني. قالت لهم أيضاً إن هذه النبتة قد تُدخل إلى الخزينة اللبنانية مبلغ مليار دولار، وأنّها قد تحدث تحوّلاً كبيراً، اقتصادياً!
سرعان ما طغت هذه القضية على كلّ القضايا الراهنة، وما عاد من حديث في مجلس خاص أو عام، إلا وكانت الحشيشة محوره! توالت بدورها المواقف السياسية المتنوّعة، فأطلّ من كان دأب طوال السنوات الماضية على المطالبة بتشريع الحشيشة ليفاخر برأيه ويصرّ عليه، وبرز في المقابل من يعترض على هذا الإجراء لما يحمله من سلبيات. بيد أنّ الموضوع لم يعد محصوراً بين قضبان المواقف والمواقف المضادة، فلبنان يبدو عازما على أن يخطو خطوة فعلية في هذا الإطار إذ أبلغ الرئيس نبيه بري السفيرة الاميركية اليزابيت ريتشارد ان مجلس النواب في صدد التحضير لدرس النصوص اللازمة لتشريع زراعة الحشيشة وإقرارها بغية استخدامها لأغراض طبية وصيدلانية!
قد يكون من المبكر الآن الدفاع عن اقتراح تشريع زراعة الحشيشة في البرلمان اللبناني تماماً كما أنه من المبكر انتقاده ورفضه، لعدم وضوح المشهد تماماً، ليس بفعل الدخان المنبعث من هذه النبتة التي ما انفكّت تُزرع في لبنان منذ العهد العثماني، بل لأنه، ببساطة، لا تفاصيل دقيقة ونهائية حول الطرح المتداول سوى هدفه المعلن: استعماله لأغراض طبية!
لكنّ ما يحصل راهناً من نقاشات وتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي تبدو لافتة وتستحق التوّقف عندها قليلاً، ولو أنها لا تحتمل أن تُعطى حجماً أكبر منها، أقلّه في هذه المرحلة. فمن الواضح أن اللبنانيين، أو بالأحرى الأغلبية من مستخدمي "السوشيل ميديا" تُبدع في التهليل لفكرة تشريع الحشيشة انطلاقاً من تأثيراتها الإيجابية العديدة على مستهلكيها! من قال إنّ النبتة ستكون متوافرة للاستخدام الشخصي و"السلطنة" هروباً من أزمات هذا البلد ومآسيه؟! لا أحد! لكنّ المهللين يريدونها كذلك، ولو من باب "التنكيت" والمزاح على الجدران الافتراضية! على هذا النحو، يمكن القول إن "القصة مبلشة غلط من أوّلها"، وإنّ خطورة بقائها كذلك، أو في أفضل الأحوال، رمادية غير واضحة، تدفع إلى بروز عدد من التخوّفات الأخرى، أو الأسئلة والتساؤلات التي تحتاج إلى إجابات صارمة وواضحة.
ولعلّ أبرز هذه المخاوف يكمن في ما إذا كانت ستوضع ضوابط وقيود صارمة تحول دون حلول الفوضى، وهي باتت سائدة للأسف في كلّ القطاعات، وذلك منعاً لأن يتمّ بيع النبتة محلياً، "بالمفرق" و"بالمخفي"، لاستهلاكها من قبل العموم، بطريقة لا تخضع لأي رقابة أو سيطرة.
لبنان ليس هولندا، فهناك دولة بكل ما للكلمة من معنى، ما قد أتاح لها تشريع استهلاك الحشيشة في المقاهي أو استخدامها في منتجات غذائية، لكن ماذا عن لبنان؟! ماذا عن بلد يجاهد في العيش مشلولاً، مسلوب الإرادة والقرار، مخنوقاً ومحاطاً بألسنة النيران؟! ماذا عن بلد يحتل المرتبة 143 عالمياً في مؤشر الشفافية العالمي للفساد؟! ماذا عن بلد يقتل شبابه بعضهم بعضاً على الطرقات لأتفه الأسباب ويعيش الكثير من مجرميه خارج السجون؟! ماذا عن بلد قوانينه ليست إلا حبراً على ورق، بدءاً من قانون منع التدخين في الأماكن العامة وصولاً إلى قانون الحق بالوصول إلى المعلومات أو مثلاً قانون الانتخابات؟! ماذا عن بلد لا تستطيع مؤسساته جباية فواتير الكهرباء والمياه من بعض المشتركين؟!
ماذا عن بلد ثرواته مهدورة أو مقترع عليها وموّزعة على أصحاب السلطة والمال، هل من يضمن عدم تحوّل حقول الحشيشة "بلوكات" تعود إلى مجموعة مستأثرة أسوة بالنفط الذي لم يُستخرج بعد من بحر لبنان أو أرضه؟!
أسئلة كثيرة تتزاحم في العقول، لكنّ الإجابات مفقودة حتى الساعة. حتى الخطة المقترحة من قبل شركة "ماكينزي" نفسها غير واضحة المعالم: هل على الدولة أن تتعاون مع المزارعين "القدامى" في حال بدء المشروع أم ستتوّلى هي ذلك من الألف إلى الياء؟
ولماذا ستنجح الدولة اللبنانية هذه المرّة بالإفادة من هذه الزراعة "التقليدية" والحرص على عدم تكبيد المزارعين أي خسائر، فيما فشلت على مرّ العهود بدعم الزراعات البديلة أو حتى بالتعويض على أصحاب الرزق بعد تعرّضهم لنكسات خلّفتها الطبيعة؟!
وهل يمكن أن تنشأ أزمة بين المزارعين والدولة حول السعر؟! فإذا كان أصحاب الزرع قد امتلكوا لأعوام حرية تحديد السعر وبيعها كما يشاؤون، فهل سيقبلون غداً بسعر رسمي محدد لا يتناسب مع ما اعتادوا عليه؟!
ماذا عن الزراعات الأخرى؟ هل سيبقى "ابن آدمي" في لبنان يزرع البطاطا والشمندر السكري ويعتني بأشجار التفاح والزيتون، علماً أنّ لبنان يستورد القمح بسبب غياب الخطط الاستراتيجية في قطاع الزراعة إضافة إلى عوامل مساهمة أخرى (المياه، التقنيات، الأرض...)؟!
علامات الاستفهام كثيرة. لبنان ومعه بعض دول الخارج وعلى رأسها الولايات المتحدة، ما عادت تدرج الحشيشة في خانة "المخدرات" لدى الحديث عنها، بخلاف ما كان يحدث في الماضي (الولايات المتحدة كانت تصدر سنوياً "تقرير استراتيجية مكافحة المخدرات العالمية" بحيث تقطع التعاون وتكف عن تقديم المساعدات إلى دول يتبيّن أنها منتجة للمخدرات أو تشكلّ معبراً لتصديرها)! هذا طبعاً لأن الهدف المعلن والمرجوّ هو استخدامها طبياً، لكن ماذا لو "لفّت بينا الدنيا" وتغيّر الوضع؟!!