يبدو أنّ محاولة قيصر موسكو سحب البساط في الملف السوري من تحت أقدام الجميع دونها عقبات، فربما لم يكتمل نجاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنقل محادثات أستانة إلى سوتشي في تموز 2018، والتي تضمّ الدول الثلاث الضامنة: تركيا وروسيا وإيران، مع صدور مواقف وزراء خارجية المجموعة الدولية المصغرة المؤلفة من أميركا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا والأردن ومصر والسعودية، التي كانت قد أنشئت عام 2015. وبحسب المعلومات فقد شُكّلت بمبادرة من سيّد الإليزيه وبموافقة أميركية، كما أنّ مواقف هذه المجموعة هي أقرب لواشنطن منها إلى موسكو.
وقد وردت هذه الفكرة منذ الحملة الإنتخابية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي دعا حينها إلى عقد مؤتمر دولي بمشاركة واسعة من دول العالم والأمم المتحدة للوصول إلى حلول توافقية حقيقية تمهد لانتقال سياسي في سوريا لا مكان للرئيس السوري بشار الأسد فيه.
إذًا، كان لافتًا بالأمس البيان المشترك لوزراء خارجية المجموعة المصغرة أو كما تُسمّى "الدول الـ7"، الذي دعا إلى مواصلة العمل للتوصل لحل سلمي للأزمة السورية برعاية الأمم المتحدة، ووفقا لقرار مجلس الأمن رقم 2254، وذلك بعد اجتماع عقده وزراء خارجية هذه الدول في واشنطن برئاسة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لمناقشة الملف السوري. وبعث البيان رسالة تحذير إلى من "يؤمنون بالحل العسكري وزعزعة استقرار المنطقة"، مفادها أنهم "لن يحصلوا على شيء سوى زيادة مخاطر حدوث تصعيد وإشعال المنطقة بشكل أوسع".
ومع تساؤل كثيرين عن مهمة هذه المجموعة، ومعنى ما حذّرت منه، لا بدّ من التذكير بأبرز المبادئ التي يتفق عليها وزراء هذه الدول بشأن سوريا، والتي كانوا قد سلّموها في منتصف أيلول 2018 للمبعوث الأممي السابق ستيفان دي ميستورا، فهم يسعون إلى حكومة سورية تكون ليست راعية للإرهابيين ولا تؤّمن بيئة آمنة لهم، خالية من أسلحة الدمار الشامل، وتنهي على نحو موثوق برامجها لأسلحة الدمار الشامل، كما تقطع علاقاتها مع النظام الإيراني ووكلائه العسكريين، وتقصد المجموعة بذلك المجموعات المقاتلة مع إيران بسوريا من بينها "حزب الله"، ولا تهدد جيرانها، وتخلق شروطًا للاجئين من أجل أن يعودوا بأسلوب آمن وطوعي وكريم إلى منازلهم باشتراك الأمم المتحدة، وتلاحق وتعاقب معًا، مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، أو تتعاون مع المجتمع الدولي في القيام بذلك.
كما تدعو هذه المجموعة إلى إجراء إصلاحات دستورية وانتخابات بإشراف الأمم المتحدة، وتشدّد على ألا يكون هناك مساعدة دولية في إعادة الإعمار في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية التي تغيب فيها عملية سياسية ذات مصداقية، وأن يجري انتخاب ممثلين عن شمال شرق سوريا وقد تعني بذلك الأكراد، وشخصيات المعارضة السورية.
وتشدّد هذه المجموعة على تعديل صلاحيات الرئيس لتحقّق توازنًا بين السلطات من جهة، وضمانات استقلال مؤسسات الحكومة المركزية والإقليمية من جهة أخرى، كما ينبغي أن يقود الحكومة رئيس وزراء ذو سلطات قوية مع تحديد واضح للصلاحيات بين رئيس الوزراء والرئيس، علمًا أنّ هذا البند يشبهّه كثيرون بما جرى في لبنان من تعزيز صلاحيات رئيس الحكومة، ويسمّونه "لبننة سوريا"، كما توصي المجموعة بضرورة مشاركة النازحين بالإنتخابات، حيث ورد بأحد البنود أنّه "يجب إزالة القيود على الترشيح للانتخابات، ولا سيما تمكين اللاجئين والنازحين وأولئك الذين تم نفيهم من سوريا من الدخول في المنافسة الانتخابية بما في ذلك على منصب الرئاسة".
كما أنّ هذا الإجتماع يأتي بعد أيام قليلة من زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمصر، وإعلانه عن وجود تنسيق كامل مع مصر في ملف الأزمة السورية وفي المساعي للتوصل لتسوية سياسية هناك، وذلك بعد شهرين فقط من زيارة أجراها رئيس مكتب الأمن الوطني السوري علي المملوك للقاهرة.
شهر عسل!
كما يبدو جليًا أنّ المواقف السعودية والفرنسية تتطابق في الملف السوري، لا سيما بالحل السياسي القائم على إنشاء "سلطة انتقالية تنفيذية" تتولى المسؤولية في دمشق بحسب ما ورد في بيان جنيف لصيف عام 2012 مع رفض إعطاء دور للرئيس السوري بشار الأسد في مستقبل سوريا، وفي الوقت الذي كانت تتشكّل فيه اللجنة المصغرة، زار وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الإليزيه عام 2015، وقالت حينذاك وسائل إعلام سعودية إنّ علاقات الرياض وباريس تعيش مرحلة شبيهة بـ"شهر العسل".
ومع معلومات عن تأجيل زيارة ماكرون الذي يبدو أنّه يحمل مفاتيح الحلّ السوري، إلى لبنان، وثمة اتجاه لدى الحكومة اللبنانيّة للأخذ بالمبادرة الروسية لعودة النازحين السوريين لا سيما مع تعيين وزير مقرّب من دمشق، يجري الإعداد لزيارة قريبة لوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى لبنان، فالشروط الأوروبية لعودة النازحين لمناطق آمنة تختلف عن الرغبة الروسية، كذلك فقد أورد موقع "المونيتور" منذ أيام أنّ إيران لا ترغب بعودة جميع النازحين، فما تريده من سوريا هو تأسيس موطئ قدم لها وإذا ما استطاعت تغيير وجه سوريا الطائفي، فستتمكّن من فرض نفوذها بشكل أكبر.
ويأتي التوجّه ضد إيران أيضًا من خلال كلام للودريان الذي قال فيه إنّه على المجموعة المصغرة بذل كل ما في وسعها لمنع الوجود العسكري الإيراني في سوريا من أن يقود إلى امتداد النزاع الى خارج الحدود السورية، علمًا أنّ بند قطع العلاقات مع إيران في مقدّمة ما اتفق عليه وزراء الدول السبع.
مواقف روسيا وسوريا وتركيا من "الدول الـ7"
وعن رأي سوريا بهذه المجموعة، ففي تشرين الثاني 2018 أكد مندوب سوريا الدائم لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري أن الدستور شأن سيادي يقرره السوريون ولا يمكن قبول أي فكرة تشكل تدخلا في الشؤون الداخلية، مؤكدًا على الدور المهم الذي تقوم به روسيا وإيران كضامنين في مسار أستانة، وقال إنّه لا يجوز فرض أي شروط أو استنتاجات مسبقة بشأن عمل اللجنة الدستورية لا سيما من قبل "المجموعة المصغرة".
كذلك فتركيا لا تؤيّد هذه المجموعة، فقد وجّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انتقادات لأدائها، إذ اعتبر أنّها تأتمر بأوامر من واشنطن وتتجاهل أطرافًا أساسية معنية بالملف السوري. ويبدو أنّ هناك تقاربًا بين دمشق وأنقرة، مع ورود معلومات عن أنّ وفداً أمنيًا تركيًا عقد اجتماعات مع وفد أمني سوري في العاصمة الروسية حول المنطقة الآمنة في الشمال السوري واتفاق أضنة الموقع بين البلدين عام 1998، وذلك بعد يوم واحد من حديث الرئيس التركي لـ"TRT" عن علاقات "بمستوى منخفض" بين بلاده والنظام السوري.
كما كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد أعلن أنّ روسيا غير متفقة مع موقف ما يُسمى بـ"المجموعة المصغرة".
ومع إشاعة أجواء عن أنّ رياح التغيير تهبّ في دمشق، عادت واشنطن لتفرض عقوبات جديدة من خلال ما يسمّى قانون "قيصر" لحماية المدنيين، كما أدرج الإتحاد الأوروبي 11 شخصية و5 شركات على علاقة بالنظام السوري إلى لائحة عقوباتها، كما أنّه ليس من المؤكّد بعد موقف المملكة العربية السعودية من تطبيع العلاقات مع سوريا لا سيما بعد موقف "اللجنة المصغرة" التي باتت أهدافها واضحة، كما أنّها لا تعارض في الوقت نفسه عودة السفارة الإماراتية ومعها البحرينية الى دمشق، وهنا تتجه بعض المعلومات الصحافية الى القول إنّ الوجود العربي على الأراضي السورية مطلوب لمواجهة النفوذ الإيراني، وهو لا يهدف للتطبيع مع الأسد، فيما تتجه مصادر أخرى إلى القول إنّ الإمارات ومصر طلبتا ضمانات لقوات سوريا الديمقراطية وشمال سوريا من أجل إعادة العلاقات إلى إطارها الطبيعي، كذلك من أجل المشاركة بالتمويل لإعمار الرقة.
وأخيرًا، لا بدّ من التذكير بأنّ "رجال" بوتين من مبعوثه الخاص الى رئيس الإستخبارات جالوا خلال الأسبوعين الأخيرين في المنطقة، فمنهم من زار السعودية وآخرون أبو ظبي، كما كان التوجّه الى مصر وإسرائيل، مع اهتمام بوتين بإيجاد حلّ للملف السوري وضمان أمن إسرائيل معًا، إضافةّ الى الدفع لإجراء الإنتخابات الرئاسية في ليبيا، وتأمين موطئ قدم لروسيا في السودان، مع وصول رجال أمن من روسيا لتدريب الجيش السوداني.
إذًا، تُعيد روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، كلّ دولة من جانبها، ترتيب الأوراق التي جرى خلطها في المنطقة منذ سنوات، وعادَت المجموعة المصغرة تبرز على الساحة داعيةً لتطبيق حلّ سياسي لا عسكري في سوريا وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم 2254، ومع اتفاق على إبعاد إيران عن الساحة، وهو الأمر الذي قد تحبذه روسيا التي أرسلت المبعوث الخاص للرئيس الروسي المعني بشؤون سوريا، ألكسندر لافرينتيف ونائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرنشين إلى إسرائيل من أجل تبديد مخاوفها بشأن سوريا، تبقى مسألة إعادة النازحين وتأمين انتقال سلميّ لهم عالقة، بانتظار ما ستحمله زيارة الوزير الفرنسي المحتملة إلى لبنان، ومن يدري إذا ما جرى حلّ هذه المسألة، قد يأتي ماكرون في أواخر العام 2019 متوجًا مبادرته السورية بنصر الى لبنان!