كتبت جنى الدهيبي في "المدن": "في هذه الأيام الثوريّة، تسجّل ساحة النور لحظات عظيمة في تاريخها، ويشهد عليها "الله" في اسم جلالته الذي يتربّع في وسطها. لقد تحررت طرابلس قولًا وفعلًا. هي ساحة للنّور والثّورة والتلاقي على الأوجاع والهموم والآمال والطموحات والمطالب وأعمال الخير. فالإلفة التي تشهدها الساحة، والجميع على قلبٍ واحدٍ، تلقائيًا ومن دون مدبّر، يحتاج وحده لقراءة مديدة وتحليل متأن لمشهدياتها الكثيرة، فيما أبناء الساحة يواظبون على تفقّد بعضهم، يوزّعون المياه والطعام ويتابعون حالة من طرأ عليه وضع صحي في تظاهرتهم الجماهرية والغفيرة. الفيديو وسجال المدينة أمّا "حراس المدينة"، فهم حكاية أخرى، كخلية نحلٍ يعملون ولا يتعبون، وهم يحرسون ثورة ناسهم إلى جانب وحدات الجيش وقوى الأمن الداخلي المنتشر على طول مسارب الساحة.
طرأ على "ساحة النور" مظاهر اجتماعية وثقافية لم تكن مشهودة من قبل في طرابلس، فجاءت الثورة الشعبية لتُظهّرها وتكشف الحجاب عنها. في الليلة الخامسة للثورة، انتشر فيديو كالنار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعي، لشيخٍ بعباءته وعمامته محمولاً على أكفّ شباب ثوّار، يرقصون به ويهتفون على وقع الأغاني الموسيقية والأناشيد الثورية، وهو يرفرف بيديه. تحول الفيديو إلى موضع خلافٍ ونقاش وسجالٍ عقيمٍ ومعقد، لا يخرج عن سياقات النقد والجدل على الطريقة اللبنانية بين مؤيدٍ ومعارضٍ له. فكيف يعني أنّ هناك شيخًا يرقص؟ ويسمع الأغاني؟ ويهتف؟ ويضحك على وقع الموسيقى؟ يا للهول! هناك من تطرّف برأيه لدرجة وصفه بـ"المرتدّ". وهناك من اعتبر أن سلوكه ليس لائقًا بحقّ عباءته وعمامته ومكانته الدينية الإسلامية. وهناك بالطبع من أيّد هذه الظاهرة، واعتبرها سلوكًا طبيعيًا وتلقائيًا يمكن أن تشهده ساحات الثورة. الشيخ عياش أحمد وفي وسط هذا الجدل، سألت "المدن" عن الشيخ، وحاورته للوقوف عند وجهة نظره. هو الشيخ عياش أحمد، من محافظة عكار في برقايل، يبلغ من العمر 43 عامًا، ويعمل في المحكمة الشرعية في حلبا. لهذا الشيخ جمعية للعمل الخيري، ويوزع شنطاً مدرسية على أولاد منطقته في برقايل، ويشير أن هناك بيوتًا في منطقته يأكل أهلها خبزًا وملحًا لأنها لا تملك كلفة قوتها، ولديهم همّ كبير في تأمين تكاليف الطبابة والاستشفاء، كحال شريحة واسعة من اللبنانيين وأهالي الشمال، المحرومين بغالبيتهم من الضمان الصحي. يقول: "من أجل هؤلاء نزلت إلى الشارع، ضدّ الفقر والحرمان، وأنا كنت من الداعمين لثورة الأرز. نزلت إلى شارع الثورة في ساحة النور، لأنني لا أتمنى أن يأتي يوم اضطر فيه للوقوف على باب مسؤول من أجل الدخول إلى المستشفى، أو من أجل شراء قسيمة دواء، أو من أجل تعليم أولادي، ونزلت حتّى لا أتعرض للذلة والمهانة".
يأسف الشيخ أحمد أن هناك من حاول أن يصطاد بالماء العكر، و"سوّق لفكرة أن شيخًا يرقص بالتظاهرة حتّى يتهجموا عليّ. لكنني مستمر في الاعتصام مع الثّوار، ولن يضرنا أيّ نقد أو دسائس أو مؤامرات، وهم يفعلون ذلك من أجل إبقاء الناس في بيوتها، وتعرضت للتجريح الشخصي وللكلام النابي"، ثمّ يستشهد ببيتٍ شعري من قصيدةٍ للشاعر إيليا أبو ماضي: "قال العدى حولي علت صيحاتهم / أأسر والأعداء حولي في الحمى ، قلت ابتسم لم يطلبوك بذمهم / لو لم تكن منهم أجل وأعظما". ورغم أنّ الشيخ يعترف أنّ هناك من انتقده من باب "الغيرة عليه"، يشير أنّ الفيديو لقي استحسانًا على امتداد لبنان وخارجه، وهناك من أثنوا عليه، لا سيما أنّ شبابًا متظاهرين في الساحة حملوه على أكتافهم بعد إلقاء كلمته. يضيف: "كان خطابي حماسيًا لهم للغاية، ووجهت تحية لقائد الجيش، وقد حصل الأمر بشكل عفوي على وقع الموسيقى من دون تدبير منّي، ولم يكن من الأدب أن أعارض حركتهم المحبة تجاهي، من أجل تفادي أيّ انتقاد، لأنّ محبتهم وحماستهم في تلك اللحظة غلبتني، وكان تصرفي طبيعيًا وعفويًا". الثورة متواصلة في الليلة السادسة، كانت أعداد المتظاهرين في ساحة النور قد تخطّت الـ 100 ألف وفق التقديرات، وقد اكتظت مع شوارعها المتفرعة من الساحة بالناس، ورفعوا الأعلام اللبنانية، مطالبين بالإصلاح المالي وتعزيز دور القضاء وإسقاط النظام والعهد والحكومة، كنوعٍ من الإصرار والتأكيد على عدم الرجوع من الشارع إن لم تُنفذ مطالبهم. وفي الليلة السادسة، استمرّت أجواء الاحتفالات الثورية، وعقد المتظاهرون حلقات الدبكة وأنشدوا النشيد الوطني ووجهوا التحيات إلى الجيش، على وقع الأغاني الوطنية "راجع راجع يتعمر"، و"بكتب اسمك يا بلادي"، ورددوا شعارات بصوتٍ صارخ مثل "يسقط حكم الأزعر"، "كلن يعني كلن" و"يلا ارحل ميشال عون"..
صباحًا، كانت ورش البلدية وشركة التنظيف المتعهدة نفايات المدينة "لافاجيت" قد نظفوا الساحة قبل توافد المتظاهرين، بالتعاون مع حراس المدينة. وبعد الظهر، حاولت مجموعة من المتظاهرين أن تتوجه إلى فرع مصرف لبنان في طرابلس، لكنّ قوى الأمن الداخلي ووحدات الجيش كانت تؤازر المبنى، فتقدموا نحوه وألقوا الهتافات ضدّ مصرف لبنان واتهموه كواحدٍ من المسؤولين عن ترسيخ سياسية التجويع والتفقير في البلد. وبعد أن أصدر وزير التربية أكرم شهيب قراره بفتح أبواب الجامعات والمدارس الأربعاء قبل أن يتراجع عن قراره، تجمع حشد من طلاب المدارس والجامعة اللبنانية والأساتذة المتعاقدين أمام سرايا طرابلس، وهتفوا ضدّ هذا القرار باعتباره تضييقًا على ثورتهم، ورفعوا لافتات كُتب عليها عبارات مثل: "لا دراسة ولا تدريس، حتى يرحل الرئيس"، و "كلكن يعني كلكن، وأيوب يكون معكن" (رئيس الجامعة فؤاد أيوب)، و"الجامعة اللبنانية في طليعة الثورة: ممنوع الانتقاص من حقوقنا بعد اليوم".
وفي اليوم السادس، أنهى المنظمون رسم العلم لبناني الذي غطى مبنى "الغندور"، وكتبوا أسفله: "طرابلس مدينة الحرية والعيش المشترك" و"من طرابلس شكرا للجيش والقوى الأمنية وبلدية طرابلس".