قبل نحو اسبوع قُتل جنديان اميركيان في سوريا، الأول في الحسكة والثاني في دير الزور، في عمليات استهداف تعتمد تكتيك العصابات، وفي حين لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن العمليتين، طُرحت اسئلة كثيرة عن توسيع ايران ساحة عملها ضد القوات الاميركية بعدما كانت كل المؤشرات توحي بتحييد الساحة السورية عن الاشتباك العسكري مع واشنطن.
في الكباش العسكري الحاصل في المنطقة، لم تصبح كورونا اولوية بعد، لا تزال خطة عمل كل الاطراف على حالها، حتى أن العمليات ضد القوات الاميركية في العراق حصلت في عز انتشار كورونا في ايران، لكن بالرغم من تلازم مسار العمل الايراني ضد الجيش الاميركي بالوتيرة التي بدأت في العراق وسوريا، ومحاولة اغتيال علنية لقيادي في "حزب الله" بالطريقة التي حصلت فيها امس، غير ان ما حصل أمس يحمل دلالات واسعة ورسائل بالغة الخطورة.
حتى ساعة متأخرة من بعد ظهر امس، كانت لا تزال التسريبات حول طبيعة العمل الذي حصل في جديدة يابوس غير واضحة، قيل انها عبوة ناسفة بعد المعلومات عن كونها استهدافاً بطائرة استطلاع، لكن معلومات رسمية أكدت لـ"لبنان ٢٤" ان الاستهداف حصل بطائرة مسيرة من داخل الاراضي اللبنانية، وان كل ما يقال هنا وهناك هو تحليلات غير مبنية على وقائع بسبب الطوق المعلوماتي الذي قام به "حزب الله" منذ اللحظة الاولى.
لكن الحزب الذي شيّعت اوساطه انه في صدد تحرير بيان واضح حول موقفه مما حصل، تراجعت ليلاً عن الأمر وأكدت ان لا بيان سيصدر، واذا كان هناك كلام يجب أن يقال فسيقوله الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله في اطلالاته المقبلة.
ووفق المصادر فإن الاستهداف كان بهدف القتل، ولم يكن كما يحصل في استهداف شحنات الاسلحة النوعيةالذي لا يهدف الى ايقاع قتلى، بل كان عملية اغتيال واضحة لكنها فشلت، والفشل وارد وهذا ما حصل في حضر قبل اسابيع عندما فشلت اسرائيل عبر طائرات مروحية من قتل قيادي محلي في "المقاومة الاسلامية في سوريا" في سيارته.
خطورة ما حصل امس، ان اسرائيل استخدمت ادوات عسكرية (طائرة استطلاع مسلحة) لتنفيد عملية أمنية (اغتيال شخصية محددة) في عمق الاراضي السورية وليس عند الحدود معها، اي أن الذي اريد اغتياله لم يكن يهدد نظرياً الاراضي الفلسطينية المحتلة كما قيل عند اغتيال مجموعة القنيطرة، او سمير القنطار الذي عمل على ملف الجولان.
عوامل ثلاثة (ادوات عسكرية، عملية امنية بعيدة عن خطوط التماس) اعطت الحدث اهمية كبرى وجعلته يشبه، لو نجح طبعا، عملية اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في مطار بغداد، وهذا ما يوحي بأمرين، الأول أهمية الشخص المستهدف. فبعيداً عن الاسماء التي سربت عبر وسائل التواصل الاجتماعي وهي في المناسبة غير صحيحة، لكي تقوم إسرائيل بعملية اغتيال مستخدمة ادوات عسكرية علنية يعني أن قتل المستهدف تستحق المخاطرة بمعركة عسكرية، اذ ان تل ابيب تدرك أن ردّ "حزب الله" سيكون حتمياً وسيستهدف اماكن حيوية في العمق وليس عند الحدود. أما الدلالة الثانية للعملية هي ان المسار الذي بدأته واشنطن مع قاسم سليماني مستمر.
قسم المتابعون سياسة المعارك بين الحروب الى قسمين، الاول هو ضرب عوامل القوة ومنع تراكمها وهذا ما حصل مراراً في سوريا والعراق خلال السنوات الاخيرة. اما القسم الثاني فهو استهداف العقول، وهذه سياسة قديمة بدأتها اسرائيل قبل الحرب السورية لكنها باتت اليوم جزءا من استراتيجتها لضرب قدرات "حزب الله" خصوصاً مع توسعه في المنطقة.
مع اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، طرحت اسئلة ما اذا كان ما يحصل هو مسار اميركي- اسرائيلي ام انه ضربة لها اهدافها المحددة، لكن الواضح بعد عملية الامس انها مسار ثنائي اميركي - اسرائيلي مثل المسار الثنائي الذي اعتمد في السنوات الماضية لضرب القدرات في سوريا والعراق خصوصاً بعدما تم الاعلان عن تقسيم الساحات اذ تستلم واشنطن الساحة العراقية وتستلم تل ابيب الساحة السورية.
قبل كورونا، كانت احتمالات الحرب بين "حزب الله" واسرائيل مرتفعة، كان يحكى انها ستبدأ بسبب استهداف اسرائيلي لقواعد صاروخية في البقاع طالما تحدث عنها وطالب بإزالتها المبعوثون الاميركيون، لكن كورونا ادت الى تراجع احتمالات الحرب الى حدودها الدنيا وهذا بحد ذاته يشكل خطراً على اسرائيل.
لنعد قليلاً الى الوراء، قبل سنوات حاولت اسرائيل حسم معركتها مع "حزب الله" من دون حرب، ومن هنا نشأت فكرة المعارك بين الحروب، وتقوم فلسفتها على الاستفادة من انشغال الحزب بالحرب السورية وتوجيه ضربات محددة له تؤدي الى استنزافه على مستوى الامكانيات العسكرية النوعية وعدم تمكنه من ترميم هذه الخسائر، وهذه السياسة توسعت تدريجياً لتطال الفصائل الحليفة للحزب في الساحة العراقية على اعتبار ان المقومات التي يمتلكونها جعلت العراق رغم بعده الجغرافي النسبي دولة من دول الطوق. هذه السياسة ووفق التقارير الامنية الاسرائيلية فشلت ولم تستطع الحد من قدرة الحزب وكل ما تمكنت منه، وفق اكثر المتفائلين، هو ابطاء عملية مراكمة القوة في سوريا والعراق، وفشل كامل في لبنان، هكذا بدأ الحديث عن ضرورة استهداف الساحة اللبنانية وضرب مخازن الحزب الاستراتيجية فيها حتى لو ادى الامر الى حرب، فخسائر الحرب في هذه الحالة تبقى اقل من تحمل تطور الحزب عسكرياً. لكن كورونا بدلت الخطة، ويبدو ان تل ابيب عادت الى سياسة المعركة بين الحروب لكن بجرأة اكبر، جرأة كادت توصل المنطقة الى حرب كبرى عند اغتيال قاسم سليماني.
حددت اسرائيل اولوياتها علناً، انها مستمرة في تصعيدها داخل سوريا وجاهزة للذهاب به بعيداً حتى في ظل كورونا، ولعل بين سطور الرسالة الهجومية في جديدة يابوس كلام دفاعي، ارادت تل ابيب من خلاله القول انها ليست ضعيفة وليست منشغلة بسبب تفشي وباء كورونا فيها.
في ظل هذا المشهد، لا تبدو اسرائيل تعزف وحيدة، فالتصعيد الايراني في سوريا ضد الاميركيين بات واضحاً، والحرب الساخنة الهجينة بين كل الاطراف تتجه نحو تصعيد مستمر لتعود الساحة السورية لتكون جزءًا اساسياً من الكباش العسكري في المنطقة.
عملياً لم تكسر اسرائيل امس قواعد الاشتباك، بل ربما ذهبت بها بعيداً تحت السقف المعمول به، لكن الحزب الذي امتنع في اللحظات الاخيرة عن التعليق يبدو وفق تعاطيه السابق مع مثل هذه الاحداث أنه سيذهب الى رد ما، لا تعرف طبيعته، غير ان عدم الرد على ما حصل، ان كان عملية استهداف فعلية ام عملية جس نبض ( وهذا مستبعد) سيعني موافقة الحزب ورضوخه للقواعد الجديدة، واخطر ما فيها استخدام الادوات العسكرية للاغتيال، وهذا في حال ترافق مع غياب الردع، اي الرد، يعني ان عناص "حزب الله" وقيادييه سيكونون عرضة لمثل هذه العمليات في سوريا في اي وقت.