كتب مايز عبيد في "نداء الوطن" يُواصل الدولار الأميركي تحليقه، مُحقّقاً ارتفاعات قياسية مُقابل الليرة اللبنانية، آخذاً في طريقه كلّ شيء نحو المجهول. وتُواصل بالتالي كلّ القطاعات والمصالح إنهيارها، بالرغم من أنّ أصحابها يرفعون الأسعار، إلا أنّ المواد الأولية المطلوبة لكل مصلحة أصبحت أغلى من الغلاء نفسه.
حتّى المنقوشة لم تعد ترويقة الفقراء، فماذا عساه يأكل؟ عندما كنّا صغاراً، كانت جدّتي تُردّد على مسامعنا: "العزّ للحمة والزعتر عم يتحسّر". لكنّ العهد القوي أبى إلا أن يأخذ للزعتر حقّه من كل هذه الأمثال وغيرها، فطارت أسعاره وطارت معه المنقوشة في العلالي. وعلى هذا السيناريو القائم والقاتم، ينام اللبنانيون ليلهم ويصحون نهارهم. فالمنقوشة، وهي ترويقة الفقراء اليومية، كان سعرها أيام كان الدولار بـ 1500 ليرة لبنانية، 250 و 500 للزعتر، 1000 للجبنة و 2000 ليرة لمنقوشة اللحمة، وهكذا دواليك. فليس اللحم أو الدجاج من المأكولات التي غابت عن سُفرة الفقراء ومتوسطّي الدخل. المنقوشة هي الأخرى بأنواعها الثلاثة، أو أقلّه بنوعيها الجبنة والزعتر ستغيب من الآن وصاعداّ عن الموائد والإفطارات الصباحية، ولن تعود بعد اليوم منقوشة الفقراء، بل ستصبح أكلة الأغنياء أو من يملك المال.. وصار للمنقوشة عزّها.
قصدنا أحد أفران بيع المناقيش في بلدة حلبا، وسألنا عن الأسعار ليتبيّن لنا التالي: منقوشة الزعتر من 500 ليرة لبنانية إلى 2000 ليرة لبنانية، منقوشة الجبنة من 1000 ليرة إلى 3000 ليرة لبنانية، منقوشة اللحمة من 3000 ليرة لبنانية إلى 6000 ليرة لبنانية. في محلّات أخرى في عكّار وطرابلس، وصل سعر منقوشة الزعتر إلى 5000 ليرة لبنانية. لكنّ هناك محلّات مناقيش أو أفراناً للمناقيش في داخل القرى العكّارية وفي أحياء مدينة طرابلس الداخلية، لا تزال تبيع المناقيش ضمن سعر معقول، حيث يتراوح سعر منقوشة الزعتر بين 1000 و 1500 ليرة لبنانية. ولكن بشكل عام، أسعار المناقيش ارتفعت وصارت تُلهب، كالمنقوشة تماماً وهي تخرج من الفرن. وعليه، فإنّ عائلة مكوّنة من 5 أولاد مع الأب والأم، مثل مُعظم عائلات عكار، باتت بحاجة أقلّه إلى ما بين 15 ألفاً و 20 ألف ليرة لبنانية في أضعف الإيمان، لتأكل مناقيش الصباح، هذا في حال اقتصر الأمر على طلب مناقيش الزعتر وحدها.أحد أصحاب أفران المناقيش في منطقة العبدة - عكار، يُعيد سبب ارتفاع سعر المنقوشة بأنواعها، إلى ارتفاع أسعار (الزعتر، الزيت، الجبنة، اللحمة، القريشة، الطحين...) وغيرها من المواد التي تدخل في صناعة المناقيش. ويقول: "كنا في السابق نبيع أكثر ونؤمّن طلبيّات وتوصيلات بشكل أكبر. كان هاتف المحلّ لا يهدأ من الرنين. هنا توصية وهناك طلبية... صدّقني في ناس ما معها 2000 ليرة حتى تشتري المنقوشة. المشكلة ليست بالغلاء وحده، إنما في إنقطاع السيولة المادية أيضاً من أيدي الناس، حتى نحن أصحاب الأفران، عندما نشتري المواد اللازمة لصناعة المناقيش بأسعار مرتفعة، ويخفّ علينا الطلب، فإننا أمام مأزق حقيقي، سيؤدّي بنا في نهاية المطاف إلى إقفال محلاتنا والذهاب إلى البيوت".
تجدر الإشارة إلى أنّ عدداً من محلّات المناقيش في مناطق مختلفة من عكار والشمال، قد أقفل بسبب الغلاء والتراجع الملحوظ عن شراء المناقيش بشكل يومي، صباحاً أو مساءً، إذ ان محلات بيع مناقيش عدّة كانت تفتح مرّتين في اليوم، مرّة عند الصباح ومرّة عند المساء، بعضها صار يفتح مرة واحدة في اليوم عند فترة الصباح، وبعضها أقفل بشكل نهائي.
ويا ليت الأمور تقف عند هذا الحدّ. فثمّة محلّات عدّة في طور الإقفال، وأُفيد عن إقفال العديد من محلات بيع الدجاج واللحوم (الملاحم) في عدد من مناطق الشمال، بينما تعمد المطاعم التي تبيع الوجبات السريعة، كمطاعم الشاورما مثلاً، إلى بيع المأكولات التي يدخل فيها الدجاج كمادة أساسية وتوقّفت عن بيع اللحم، بعدما تخطّت أسعاره حدوداً غير معقولة وتفوق قدرة الفقير بكثير.
وعلى هذا المنوال، تتدحرج المؤسسات والمطاعم والمحلّات والمصالح الصغيرة والمتوسّطة والكبيرة، الواحدة تلو الأخرى، وكأنها دومينو، في مشهد يُنذر بانهيار تامّ لكل قطاعات البلد الإقتصادية، وبالتالي إنهيار اقتصاد البلد بشكل كامل، وصولاً إلى الهاوية التي كان الخبراء يحذّرون منها عندما يقولون "البلد على حافة الهاوية"، لقد أصبح البلد في الهاوية الآن ويتّجه نحو قعرها.