قبل أشهر عمد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى التمهيد لوقف الدعم عن السلع الأساسية موجًّها رسالة تحذيرية، مفادها أنّ ما بقي في محفظته لا يتخطى الملياري دولار، وأنّه لم يعد قادرًا على دعم ثلاثية السلع الأساسية من دواء وطحين ومحروقات، فضلًا عن السلّة الغذائية، في الوقت نفسه أكّد أنه لن يمس بالإحتياطي الإلزامي. الطبقة الحاكمة تجاهلت كليًّا تحذير المركزي، ومضت بعرقلة جهود تأليف حكومة جديدة موثوقة تشكّل مدخًلا للدعم الخارجي، والنتيجة أنّ رفع الدعم بات شبه محسوم في نهاية السنة، والأسعار ستبلغ جنونها الأعظم، كأن يصل سعر صفيحة البنزين إلى مئة ألف ليرة وربطة الخبر إلى عشرة الآف ليرة.
المعضلة الكبرى أنّ المعنيين في الحكومة لم يعمدوا بعد إلى وضع آلية عملية وواضحة لمساعدة الطبقة الفقيرة، الأمر الذي ينذر بانفجار اجتماعي وشيك بالتزامن مع رفع الدعم. عدد من الاقتصاديين انتقد آلية الدعم المعتمدة، بحيث اعتبر هؤلاء أنّ الدعم الحالي يذهب لمصلحة التجار فقط، الذين يقومون بتخزين السلع أو إعادة تصديرها أو تهريبها إلى بلدان أخرى. رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط انحاز مؤخرًا إلى هذه الرؤية، وغرّد على حسابه على تويتر "يجب وقف دعم تجار الدواء والمحروقات والأغذية والطبقة الميسورة، والتوجه مباشرة الى العائلات الأكثر حاجة، وفق إحصاء موحّد تضعه وزارة الشؤون الإجتماعية مع الجيش". تحرّك اللقاء الديمقراطي وأعدّ اقتراح قانون لإعادة توجيه الدعم وترشيده قبل نفاذ الإحتياطي المركزي. رئيس لجنة الصحة النيابية عاصم عراجي كذلك أوصى برفع الدعم الحاصل على جميع الأدوية، والذهاب لدعم أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية فقط.
ولكن هل نملك الوقت لإقرار هذه الإقتراحات؟ وما هي خطّة الحكومة؟
عدد من النقابات أطلق صرخات تحذيرية من تداعيات وقف الدعم، والمفارقة أنّ حكومة تصريف الأعمال حذّرت بدورها من نتائج رفع مصرف لبنان الدعم عن المواد الأساسية، شأنها شأن النقابات، فقال رئيسها حسان دياب أنّ "هذه الخطوة إذا حصلت ستكون نتائجها كارثية، ويتحمّل مسؤوليتها مصرف لبنان، مع كل الذين يؤيدون أو يغطّون قرارًا كهذا. أقول بالفم الملآن، لا لرفع الدعم عن الدواء والطحين والمواد الغذائية والمحروقات في الوقت الحاضر" من دون أن يبادر الرئيس الحريص على مصلة اللبنانيين إلى تحمّل مسؤولياته وإيجاد بدائل قبل فوات الأوان.
دكتور روك-انطوان مهنا خبير في الشؤون الإقتصادية ومستشار سابق في البنك الدولي لفت عبر "لبنان 24" إلى أنّ كلفة الدعم الشهرية للمواد الأساسية تقارب 620 مليون دولار، وأنّ آلية الدعم المعتمدة أدّت إلى استنزاف احتياط المركزي من العملات الصعبة، "وما تبقى لن يكفي لأكثر من آخر السنة. والخطورة أن استكمال سياسة الدعم تعني المس بالإحتياط الإلزامي أي أموال المودعين". أضاف مهنا، دعم المركزي للسلع الأساسية قابله ارتفاع كبير بمعدل إستهلاك السلع بمعدل ثلاثة أضعاف، علمًا أنّنا في ظل ركود اقتصادي، وهذا الإرتفاع يذهب في ثلاثة اتجاهات، الأول عبر لجوء المواطن إلى شراء كميات تفوق حاجته وتخزينها في المنازل، لغياب عنصر الأمان وخوفًا من رفع الدعم، اتجاه آخر يتمثّل بتهريب البضائع المدعومة إلى سوريا عبر صهاريج وشاحنات باتت مكشوفة، اتجاه ثالث يظهر في جشع التجار الذين يعمدون إلى تخزين البضائع لتحقيق أرباح كبيرة بعد رفع الدعم، خصوصًا أنّنا بظل اقتصاد احتكاري يعزز جشع هؤلاء من دون رقابة فعّالة من الحكومة.
ما الحل؟ وكيف سيتمكّن المواطن من تأمين حاجياته بعد رفع الدعم؟
يلفت مهنا إلى أنّ المساعدة التي أقرّتها حكومة دياب للعائلات الفقيرة قبل أشهر أثبت فشلها، بظل الزبائنية السياسية وفساد الإدارة، من هنا الحلّ الأنسب برأيه يكمن في اعتماد بطاقة دعم تموينيّة، تُعطى لجميع العائلات من دون استثناء لتفادي الإستنسابية والأرقام غير الدقيقة في الوزارات المعنية "وهذه البطاقة معتمدة في دول عدة، من خلال تحديد معدّل وسطي لمصروف كلّ عائلة من السلع الأساسية وفق دراسة تُنجز بهذا الخصوص، بمعدل قد يكون مليون ليرة على سبيل المثال، ومنح كل عائلة بطاقة مصرفية بالمبلغ المحدّد مسبقًا. هذه البطاقات من شأنها أن تخفض كلفة الدعم وتخفف الكتلة النقدية بين أيدي المواطنين والتي تذهب الى شراء الدولار وزيادة الطلب عليه، وتعمل على ترشيد الإنفاق الإستهلاكي المنزلي، وتضع حدًّا لجشع التجار بحيث تحول دون إمكان تخزين البضائع من قبل هؤلاء، كما أنّها تحول دون تهريب البضائع".
أضاف مهنا "هذه الآلية هي آنية بانتظار بلورة حلّ سياسي، ويجب أن تترافق مع خطوات أسياسية، كضبط التهريب والمعابر وضبط الأسعار ومنح حماية المستهلك صلاحية استثنائية، والتنسيق بين الأجهزة المعنية"
رفع الدعم من دون أن يترافق مع آلية بديلة واضحة وشفافة من شأنه أن يصل باللبنانيين إلى مجاعة حقيقية، فهل هذه الهموم تندرج في أجندات المسؤولين والرؤساء في لبنان، أمّ أنّ معاركهم والدفاع عن مصالح الحاشية تسمو فوق كل اعتبار؟