منذ أكثر من سنتين، يلاحق مفهوم "بقّ البحصة" رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، من دون أن يجد "ترجمة" على الأرض، وكأنّ الرجل الذي يتسلح بـ "الصمت المطبق" في مواجهة أشدّ الاستحقاقات وأصعبها، يجد فيه "الاستراتيجية الأمتن" للصمود.
من بوابة الملفّ الحكوميّ المترنّح، عاد الحديث عن "بقّ البحصة" قبل يومين، في ضوء "الشائعات" التي انتشرت حول نيّة رئيس الحكومة المكلَّف عقد مؤتمرٍ صحافيّ يعرض فيه، بالوقائع والتفاصيل، كواليس المفاوضات الحكوميّة مع مختلف الأطراف، وما أفضت إليه من "جمود" على أكثر من خطّ ومستوى.
وإذا كان مجرّد الحديث عن مؤتمرٍ صحافيّ للحريري، فُسّر في الكثير من الأوساط على أنّه "تمهيدٌ" لاعتذاره عن استكمال مهمّته بعدما اصطدمت بالعديد من العقد "المفتعَلة"، فإنّ مستشاريه سرعان ما أنكروا الأمر جملةً وتفصيلاً، نافين وجود أيّ مؤتمر صحافي على "أجندة" رئيس الحكومة المكلّف للأيام القليلة المقبلة.
استعينوا بالصمت!
لا يزال "الصمت" هو سلاح الحريري شبه الوحيد في "المعارك" التي يخوضها على خطّ تأليف الحكومة، سلاحٌ لم يتخلّ عنه حتى حين وُجِّهت إليه أصابع الاتهام مباشرةً في عرقلة تأليف حكومته، تارةً باعتماد "معايير مزدوجة" لاستهداف طرفٍ بعينه، وطوراً بـ "الانقلاب" على ما تمّ الاتفاق عليه، نتيجة الاستماع للخارج، وتحديداً الأميركي "المتشدّد" هذه الأيام.
يقول مقرّبون من الحريري إنّه لا يزال يسير وفق قاعدة "الاستعانة بالكتمان لقضاء الحوائج"، لأنّه مقتنع أنّ "البروباغندا الإعلامية" التي لا يزال بعض الخصوم يعتمدونها، بل "يتفنّنون" في استخدامها للإيحاء بـ "مظلوميّةٍ" يتعرّضون لها هنا أو هناك، لا تجدي نفعاً، بل على العكس من ذلك، فهي "تعمّق" الأزمة، وتوسّع "الهوّة"، بما يجعل التوصّل إلى "تفاهمات متبادلة" أمراً تعجيزياً، إذا لم يكن مستحيلاً.
ويلفت هؤلاء إلى أنّ الحريري يعمل على إنجاز المهمّة التي كُلِّف بتنفيذها بصمت وهدوء وتأنٍّ، ويحاول حلّ "العُقَد" التي يصطدم بها بأيّ طريقةٍ، شرط عدم "المساس" بأصل التكليف الذي تمّ على أساس تشكيل حكومة "اختصاصيّين غير حزبيّين"، وهو ما "تعهّد" به منذ اليوم الأول، وليس جاهزاً للتراجع عنه تحت أيّ ظرفٍ من الظروف، لأنّ ذلك سيحكم على مهمّته، وبالتالي مهمّة الحكومة الموعودة، بالفشل والسقوط سلفاً.
إلى متى؟!
لكن، إزاء ذلك، ثمّة من يسأل، إلى متى يمكن أن يستمرّ الحريري بهذا الصمت الذي بدأ "ينقلب" عليه أصلاً، ليس فقط لأنّ "رواية الخصم" هي التي بدأت تنتشر في الأوساط السياسية، من دون أيّ "تصويبٍ" لها من جانبه، ولكن قبل ذلك، لأنّ مهمّته تفقد "قيمتها" إذا ما بقيت "مفتوحة إلى ما شاء الله"، خصوصاً أنّ "الانهيار" الذي يفترض أن تواجهه الحكومة بات أقرب ممّا يتصوّر أكثر المتشائمين؟!
من هنا، وانطلاقاً من أنّ "لا دخان بلا نار"، ثمّة من يجزم بأنّ الحريري كان "في وارد" عقد مؤتمرٍ صحافيّ قبل يومين، ليدلي بدلوه ممّا تعرّض له ولا يزال على خطّ التأليف الحكوميّ، إلا أنّه "عدل" عن ذلك، نتيجة "نصيحة" قُدّمت له بالتريّث والتأجيل، ريثما تنضج بعض "الوساطات" التي انطلقت في الساعات الأخيرة بدافع إعادة "تحريك" الملفّ، بعدما قيل إنّه عاد إلى ما دون "النقطة الصفر"، خصوصاً في ضوء اللقاء الأخير الذي جمع الحريري ورئيس الجمهورية ميشال عون، والذي وصفته بعض الأوساط بـ "العاصف".
لكنّ العارفين يقولون أيضاً إنّ هذا "الصمت" الذي يتمسّك به الحريري علناً، لا يمكن أن يستمرّ طويلاً، لأنّ رئيس الحكومة المكلَّف نفسه بدأ يدرك بأنّ الفرصة المُتاحة ليست مفتوحة، خصوصاً في ضوء المتغيّرات الخارجية التي بدأت بالظهور، من "التشدّد" الأميركي الآخذ في الارتفاع، على وقع "فوضى" المرحلة الانتقاليّة الحاليّة، إلى "التراجع" الفرنسي الذي يكاد يترجم بـ "عدم اكتراث" بالملفّ اللبنانيّ، وإن لم يرتقِ بعد لمستوى "نعي" المبادرة الفرنسية بشكلٍ رسميّ.
يقول العارفون بالحريري إنّ سيناريو "بقّ البحصة" قد يتكرّر بحرفيّته اليوم. فـ "بقّ البحصة"، وفق قاموسه، قد لا يكون أكثر من "سلاح" يلوّح به بهدف الضغط على الأصدقاء والخصوم. لكن، هل يكفي التلويح اليوم لجرّ مختلف الأفرقاء إلى "التنازلات" المطلوبة لتشكيل حكومة، بعدما استعادوا "مجد المحاصصة"، أم أنّ المطلوب، من الحريري قبل غيره، أكثر من ذلك بكثير؟!.