من يراقب "انطباعات" ما بعد الجلسة النيابية غير المسبوقة التي شهدها قصر الأونيسكو يوم الجمعة الماضي، يعتقد لوهلةٍ أنّ لبنان طوى صفحة "الكوارث" التي تلازمه منذ أكثر من عام، و"انتصر" أخيراً على كلّ "المؤامرات" التي أكثر "العهد" من الحديث عنها طيلة الأشهر الماضية، أو بالحدّ الأدنى، أنّه وضع "حجر الأساس" للتدقيق الجنائيّ!
بإجماعٍ قلّ نظيره، اختار البرلمان "الاستجابة" لرسالة رئيس الجمهورية ميشال عون حول التدقيق الجنائي، والتي أثنى عليها رئيس البرلمان نبيه بري لكونها "جاءت في وقتها"، على حدّ قوله، فترجم "تأييده" هذا بقرارٍ لا يتخطّى مستوى "التوصية"، التي لا تُلزِم أحداً، ولا تتيح أيّ محاسبةٍ أو مساءلةٍ لكلّ من "يتمرّد" عليها ويرفض العمل بموجبها.
رغم ذلك، ورغم أنّ "التوصية" ذهبت أبعد من "إرادة" عون، عبر "توسيع" مهمّة التدقيق وعدم حصرها بحسابات مصرف لبنان، لم يتأخّر الأخير في "التهليل" للخطوة، التي وصفها "العونيّون" بـ "الانتصار"، بعدما كان متوقَّعاً منهم، وهم الذين أبدوا حماساً غير مسبوق للتدقيق، "التمرّد" على أيّ خطوةٍ تبقى دون سقف "القانون المُلزِم".
أين الانتصار؟
قد يقول قائل إنّ "العهد" بحاجة لإضافة "انتصارات" جديدة، ولو كانت "وهميّة"، إلى "سجلّ الإنجازات" الذي فرغ منذ فترة طويلة، ولم يعد يجد ما يسدّ به رمقه، فضلاً عن مطالب المواطنين "الخائبين" من عهدٍ اعتقدوا أنّه سيكون مدخلاً إلى "الإصلاح والتغيير"، فإذا به يكرّس كلّ الممارسات السابقة، وما انطوت عليه من محاصصة وزبائنية سياسية وفساد.
إلا أنّ هذا التوق، الذي قد يكون مُبرَّراً، إلى "الإنجازات"، لا يعفي من طرح الأسئلة حول "الانتصار" الذي تحقّق، فهل صحيحٌ أنّ إقرار البرلمان لتوصيةٍ لا تقدّم ولا تؤخّر "إنجازٌ وانتصار"؟ وهل يعتقد "العونيّون" مثلاً، والذين قيل إنّهم أسهموا في الوصول إلى هذه "التسوية"، أنّ شركة التدقيق الدوليّة ستقتنع بأنّ ما تطلبه من مستندات سيتوفّر بمجرّد صدور مثل هذه "التوصية"، بعدما قالت إنّها "متيقّنة" أنّها لن تحصل على ما تريد؟
وأبعد من ذلك، ما موقف "العونيّين" من "توسيع" المهمّة لتشمل جميع الوزارات والإدارات والمرافق العامة، والمقصود منها بطبيعة الحال وزارة الطاقة، في غمزٍ واضحٍ من قناتهم هم قبل غيرهم؟ وكيف يفسّرون "التناقض" في تفسير هذا "التوسيع" بين من يصرّ على "التزامن" في التدقيق، ومن يعتبر أنّ المهمّة يجب أن تُستكمَل في مصرف لبنان أولاً، قبل أن تنسحب إلى سائر المرافق والمؤسسات؟
"رمي للكرة"!
قد تكون "التعليقات" التي انتشرت في عطلة نهاية الأسبوع كافية للدلالة على عمق "الانتصار"، ومن بينها ما قيل عن أنّ التدقيق، إذا حصل، وبالوتيرة التي يريدها مجلس النواب، فإنّه لن يحصد نتائجه قبل العام 3000، على أقلّ تقدير، في دلالةٍ على أنّ "تكبير الحجم" لا يُراد منه سوى "تضييع المسؤوليات"، و"تطيير" الأهداف المنشودة منه، إن وُجِدت أصلاً.
وإذا كان بعض المحسوبين على "التيار" حاولوا التقليل من حجم هذه الانتقادات عبر "تصويب" الصورة، بالقول إنّ قرار مجلس النواب ليس إلا "خطوة أولى"، وأنّه يشرّع الباب أمام المزيد من الخطوات، وتحديداً التشريعات والقوانين، فإنّ ثمّة من سأل عن سبب "البطء" على هذا الخط، علماً أنّ المجلس الذي يُعتبَر "سيّد نفسه"، كان يستطيع فعل ذلك تلقائياً، خصوصاً أنّ رئيسه حوّل الجلسة أصلاً لتشريعية لإقرار مشروع قانون آخر، مع أنّ هناك مشاريع قوانين موجودة أيضاً في الأدراج تتعلق بإلغاء السرية المصرفية.
وقد يكون "رمي الكرة" في ملعب حكومة تصريف الأعمال، والذي أوحت به الكثير من التصريحات، "فخّاً" آخر يُنصَب لعملية "التدقيق" بالكامل، خصوصاً في ظلّ الجدال الدستوريّ والقانوني حول مدى "صلاحية" مثل هذه الحكومة أصلاً في المضيّ بالتدقيق، ولو أنّه يستند إلى قرارٍ سابق اتخذته هذه الحكومة، خصوصاً إذا ما تطلّب الأمر التفاوض مع شركاتٍ جديدة، وبالتالي تحضير نفقاتٍ جديدة، بما يتخطى بأشواط "الإطار الضيّق" المتعارف عليه لتصريف الأعمال من الناحيتيْن الدستورية والقانونية.
يعتقد كثيرون أنّ ما حصل في مجلس النواب الجمعة الماضي، "مسرحيّة". قد يكون هذا الرأي صائباً، وقد لا يكون، باعتبار أنّ البرلمان "سيّد نفسه"، وبالتالي "سيّد قراراته"، فضلاً عن كون "التوصية" تبقى أفضل من "لا شيء". لكنّ الأكيد أنّ ما حصل لا يرقى لمستوى "الانتصار"، وفق التصنيف "العونيّ"، أقلّه بانتظار "الترجمة" التي قد تأتي، كما قد لا تأتي أبداً...