ليس خافياً على أحد أنّ مؤتمر دعم لبنان، الذي أراده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالاشتراك مع الأمم المتحدة، "إنقاذيّاً" لبلدٍ بات على شفير الهاوية، أتى "مخيّباً" للآمال المعلَّقة عليه، في الشكل قبل المضمون، وفي السياسة قبل الاقتصاد والمال.
لم ينجح منظّمو المؤتمر في "حشد" التأييد الدوليّ المطلوب، فغاب معظم رؤساء الدول أو الحكومات الذين تمّت دعوتهم، بل إنّ الحضور العربيّ نفسه اقتصر على دولٍ معدودةٍ لا تتجاوز أصابع اليد، في دلالةٍ على "عمق" الأزمة التي يواجهها لبنان، فيما اقتصر المضمون على كلماتٍ فضفاضة لا تغني ولا تسمن من جوع.
لكن، وبعيداً عن الحكم على النوايا، قد يكون ذلك ما أراده الفرنسيّون، من المؤتمر الذي اعتبرته بعض الأوساط "هامشيّاً" في ظلّ غياب حكومةٍ أصيلةٍ يمكن للمجتمع الدوليّ التعامل معها، إلا أنّه شكّل في الوقت نفسه، فرصةً للفرنسيّين لـ "إنعاش" مبادرتهم الشهيرة، معطوفةً على معادلةٍ جديدة قرئت بين السطور، وهي "صبرنا نفد"!
لا ثقة!
صحيحٌ أنّ لبنان الذي يحتاج إلى كلّ مساعدةٍ تأتيه، في هذه المرحلة الحَرِجة والحسّاسة من تاريخه، بعد توالي الأزمات عليه، سياسيّاً واقتصاديّاً ومعيشيّاً، سعى لاستغلال المؤتمر لتحقيق ذلك، وهو ما دلّت عليه كلمة رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي دعا صراحةً لتقديم المساعدات، "مهما كانت طرقها أو آلياتها أو أدواتها، ومهما كانت القنوات التي ستُعتمَد".
لعلّ عون سعى بكلامه هذا لمحاكاة رسالة "فقدان الثقة" التي بدت جليّة في الكلمات التي واكبت المؤتمر، ومنها الكلمة الافتتاحية لراعيه وعرّابه الأول ماكرون، الذي شدّد على أنّ أيّ مساعداتٍ دوليّة لا يمكن أن تُمنَح للبنان إذا لم يبادر بالقيام بما عليه أولاً، لجهة الإسراع بتشكيل الحكومة، وتنفيذ خارطة طريق الإصلاحات، التي تمّ الاتفاق عليها بموجب المبادرة الفرنسيّة.
وما قاله الرئيس الفرنسي تمّ "تسريب" ما هو "أقسى" منه قبل بدء المؤتمر، عن عمد، عبر تصريحاتٍ نُسِبت لمسؤولٍ في الرئاسة الفرنسيّة، حملت الكثير من "التأنيب" للطبقة السياسية اللبنانية التي "لم تنفذ شيئاً" ممّا وعدت به، فضلاً عن كونها لم تُحرز أيّ تقدّم على صعيد مراجعة حسابات مصرف لبنان رغم "التهليل" المُبالَغ به لما وُصِف بـ "الإنجاز" على هذا الخطّ.
رسالة صارمة!
باختصار، هي "رسالة صارمة" أراد الفرنسيّون إيصالها إلى أصحاب القرار في الداخل اللبنانيّ، وفق ما يقول العارفون، حتى لا يعتقد أحد أنّ "التطبيع مع الفراغ" ممكنٌ وجائزٌ، طالما أنّ مؤتمر الدعم نُظِّم في نهاية المطاف، رغم تأجيله سابقاً لعدم وجود حكومة، علماً أنّ القاصي والداني يدرك أنّ عقده تمّ من باب "رفع العتب"، لا أكثر ولا أقلّ، واستكمالاً للمؤتمر الأول الذي عقد في آب الماضي، بعد أيام على انفجار مرفأ بيروت المشؤوم.
أكثر من ذلك، قد لا يكون مُبالَغاً به القول إنّ مؤتمر "الدعم" تحوّل إلى "تأنيبٍ" للبنانيين، استناداً إلى المقولة الشهيرة التي أطلقها الفرنسيّون منذ ما قبل انفجار المرفأ، ومفادها "ساعدونا لنساعدكم"، ليتبيّن أنّ اللبنانيّين لم ينفّذوا حتى اليوم الشقّ المطلوب منهم، ويطالبون الآخرين بالمساعدة، فيما هم يتصارعون على جنس الملائكة، ويعجزون عن تشكيل حكومة، علماً أنّ هناك من كان "يراهن" حتى اللحظة الأخيرة على "مفاجأة" لبنانيّة تسبق المؤتمر.
وإذا كان البعض، ممّن ينظرون إلى "النصف المليء" من الكوب، ويفضّلون "التفاؤل"، قرأوا "إيجابية" في المؤتمر، قوامها أنّ باريس لن تتخلّى عن لبنان، وأنّها لا تزال متمسّكة بمبادرتها، بعكس ما قيل في الأوساط الإعلامية عن أنّ هذه المبادرة ماتت وتنتظر من يدفنها، فإنّ الأكيد أنّ اللبنانيين لا يمكنهم "النوم على حرير" مثل هذا الاستنتاج، لأنّ "الصبر نفد"، والمهلة الفرنسيّة الممدَّدة قد لا تتخطّى نهاية العام.
قد تكون كلمة الرئيس اللبنانيّ في مؤتمر الدعم، نموذجيّة للدلالة على واقع "الضعف" الذي يعيشه "العهد"، ومعه لبنان بأسره. فعون الذي طلب المساعدة، ولو تجاوزت مؤسّسات الدولة، بل ذهب لاقتراح "آليّات" بهذا الصدد، وجد نفسه مضطراً، في مؤتمرٍ دوليّ، لـ "تبرير" العجز عن تأليف حكومة، شاكياً للعالم "المعايير المزدوجة" وغيرها.
لعلّ "الإهانة المعنويّة"، التي حملتها الكلمة بين طيّاتها، والتي لا يُلام عون وحده على مسبّباتها، كافية لـ "إدانة" طبقةٍ سياسيّةٍ كاملةٍ لا تزال "تتغنّج"، بدل أن "تستنفر" لتأليف حكومةٍ مختلفة جذرياً عن كلّ ما سبقها، بعيداً عن "ترف" يصرّ السياسيّون على البقاء في كنفه، رغم كلّ مَشاهِد الانهيار المُذِلّة!