هل تتجرأ تلك الطبقة الحاكمة على الإعتراف، ولو لمرّة واحدة في حياتها، بأنها في أزمة، وبأنها أدخلت البلد في مسلسل جهنمي لا خروج منه إلاّ بخروجها من السلطة؟
في بلاد العالم، ولبنان ليس منها، عادة عندما يفشل أي مسؤول في إدارة شؤون البلد يذهب إلى بيته من غير رجعة. نقول يفشل وليس بالتحديد عندما يُغرق الناس في سيل جارف من الأزمات. عندها لا يذهب إلى بيته فحسب، بل إلى مزبلة التاريخ.
أمّا عندنا فيبقى الزعيم زعيمًا، والمسؤول مسؤولًا. لماذا؟ لأن ليس في لبنان شعبًا يحاسب في صناديق الإقتراع. أراهن أنه لو أجريت إنتخابات نيابية غدًا، وفي ظل هذه الأزمات وفي عين العاصفة، فإن نحو 90 في المئة من النواب الموجودين اليوم سيعودون هم أنفسهم، وإن تبدّلت أسماؤهم، لأنهم سيكونون ممثلين لنفس الأحزاب، التي حكمت البلد منذ عشرات السنين، وقد رأينا النتيجة التي أوصلتنا إليها أعمالهم وتصرفاتهم، سواء في البرلمان أو في السلطة التنفيذية.
راهنّا على قوة التغيير لدى الشعب المنتفض والثائر فكانت النتيجة أسوأ من تجارب من سبقهم. قد تكون العلّة، كل العلّة، في الذهنية اللبنانية المعتادة على أن يدير الآخرون شؤون البلد بدلًا من أن يديرها أهل البيت، من العثمانيين (400 سنة)، إلى الإنتداب الفرنسي، إلى الوصاية والهيمنة السورية.
ونسمع من يقول يا ما أحلى يوم كان السوري حاكمًا ببطشه وغطرسته وجبروته، فيما يقول آخرون لو كنا تحت الإنتداب الفرنسي لما آل مصيرنا إلى ما هو عليه الآن. نصف الشعب اللبناني مهاجر، والنصف الآخر مهجّر داخل وطنه، وقد تحوّل إلى لاجىء، فيُعامل كما يُعامل اللاجىء الغريب. ينتظر المساعدة من الخارج فلا يلقاها إلاّ مضرجة بالذّل، وما إعتاده.
نراهن دائمًا على الخارج. تارة نستعين به وكأنه بقرة حلوب، وطورًا نستقوي به على الآخرين في الداخل.
ولكن هذه المرّة لن نجد أحدًا من الخارج مستعدًّا لمدّ يد المساعدة، وذلك لألف سبب وسبب. وحده الرئيس الفرنسي لا يزال "يباطح". ولولا إصابته بكورونا لحلّ علينا ضيفًا، وللمرة الثالثة في أقل من أربعة أشهر، على رغم أن برنامج الزيارة لم يكن يلحظ أي لقاء سياسي مع أحد من القادة الذين إجتمع معهم مرتين في قصر الصنوبر، وتوعدّوا أمامه بأنهم سيسّهلون قيام "حكومة المهمة الصعبة"، لكنهم خلفوا بوعودهم، وها هي الحكومة لا تزال مشروعًا ناقصًا، قد لا تكتمل حلقاته في القريب العاجل، خصوصًا أن البعض يرى أن عدم زيارة الرئيس ماكرون للبنان قبل عيد الميلاد جاءت "شحمة على فطيرة" بالنسبة إلى معرقلي قيام هذه الحكومة بمواصفات فرنسية.
هي الذهنية نفسها التي لا تزال مسيطرة ومتحكّمة بالأمور، وهي نفسها التي تسبّبت بإنفجار المرفأ نتيجة سوء التقدير والإهمال الوظيفي، وهي نفسها التي إلتهمت ودائع الناس في المصارف، وهي نفسها التي أطاحت بكل مقومات الصمود في الإقتصاد اللبناني.