في الآونة الأخيرة، كثُر الحديث عن أنّ المبادرة الفرنسيّة انتهت وأصبحت في خبر كان، أو أنّها، في أحسن الأحوال، تلفظ أنفاسها الأخيرة، بدليل "الانكفاء" الفرنسيّ الكامل عن مواكبة مستجدّات الشأن اللبنانيّ بعد أشهرٍ من "الزخم" المُبالَغ به، حين كان لبنان يتقدّم في "أجندة" الفرنسيّين على شؤونهم الداخليّة.
تعزّزت هذه الأقاويل مع تأجيل الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون زيارته التي كانت مقرَّرة إلى لبنان، نهاية العام الماضي، إلى أجَلٍ غير مسمّى، عقب إصابته بفيروس كورونا، ومن دون تحديد أيّ موعدٍ جديد لها، ما دفع البعض إلى "الاستنتاج" بأنّ كورونا قدّمت له "خدمة العمر"، وأنقذته من زيارةٍ تفتقد لكلّ مقوّمات النجاح.
وعلى مدى الأيام الأولى من العام الجديد، لم تتغيّر هذه القناعة، فغاب الشأن اللبنانيّ بالكامل عن الاهتمام الفرنسيّ، ولم يُرصَد أيّ نشاطٍ يُذكَر للرئيس الفرنسي، أو أيّ مسؤولٍ في إدارته، على خطّ الأزمة الحكوميّة في لبنان، ولو من باب رفع العتب، أو إعادة تفعيل المبادرة الفرنسيّة، بل إنّ العكس حصل مثلاً حين "طارت" زيارة مقرّرة لنوابٍ فرنسيّين إلى بيروت...
إشارة إيجابيّة
لكنّ الساعات القليلة الماضية حملت أول إشارةٍ "معاكسة" منذ فترةٍ طويلةٍ، من خلال ما تسرّب عن الاتصال الهاتفيّ الأول الذي جرى بين الرئيس الفرنسي، ونظيره الأميركيّ الجديد جو بايدن، بعد أيام على وصوله إلى البيت الأبيض، واستلامه زمام السلطة في الولايات المتحدة خلفاً للرئيس دونالد ترامب.
فبحسب ما تعمّد الفرنسيّون تسريبه، حضرت الأوضاع في لبنان، ضمن الملفّات الجوهريّة والحسّاسة التي بحثها ماكرون مع بايدن، جنباً إلى جنب الملف النوويّ الإيرانيّ ومخاطر وباء فيروس كورونا والمناخ، خلال اتصالهما الهاتفيّ، وهو تفصيلٌ له معانيه ودلالاته، وإن غاب عن "محضر" البيت الأبيض لما دار فيه، بحسب ما يلاحظ المتابعون.
ويلفت هؤلاء إلى أنّ الإشارة الفرنسيّة تحمل بهذا المعنى إيجابيّة كُبرى، إذ تدحض كلّ الفرضيّات التي انتشرت في الأسابيع الأخيرة عن أنّ باريس "تخلّت" عن لبنان، وأنّها قرّرت "سحب يدها" من الملفّ ككُلّ، وترك اللبنانيّين يتدبّرون شؤونهم، بعدما أعاقوا تطبيق المبادرة، بشروطهم التعجيزيّة، رغم إدراكهم أنّها "حبل الخلاص" للبنان.
"ساعدوا أنفسكم"
لكنّ العارفين يقولون إنّ الرسالة الفرنسيّة لا تكفي، وحدها، وإن فسّر كثيرون ورودها في إطار اتصالٍ مع الرئيس الأميركيّ، وكأنّها إعلان "حلحلة" بعدما حُمّلت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب مسؤولية "التشويش" على المبادرة، أو الضغط على الأفرقاء في لبنان، تارةً من خلال فرض عقوبات على مسؤولين لبنانيين، وطورًا من خلال "ترهيب" آخرين بمصيرٍ مشابه.
وبحسب هؤلاء، فإنّ فرنسا تبقى متمسّكة بالشعار الذي رفعته منذ اليوم الأول، وكرّره الرئيس الفرنسي ووزير خارجيته جان إيف لودريان، في كلّ إطلالاتهما "اللبنانيّة" الطابع، ألا وهو "ساعدوا أنفسكم لنساعدكم"، لأنّ إنجاز الشقّ اللبنانيّ الداخليّ من المبادرة، أي الشروع في الإصلاحات، يبقى الأساس الذي يمكن أن يُبنى عليه لاحقًا، على كلّ المستويات.
وفي حين يُعتقَد أنّ كلام الرئيس الفرنسي ستكون له "ترجمة" في القادم من الأيام، من خلال إعادة "تفعيل" المبادرة بشكلٍ أو بآخر، بناءً على المتغيّرات الإقليميّة التي قد تغيّر شيئًا في الأجواء المحيطة، وخصوصًا في "عناد" البعض في لبنان، يشدّد العارفون على أنّ الفرنسيّين لا يزالون ينتظرون "مبادرة" لبنانيّة ذاتيّة في الإطار، بما يسمح بإطلاق عجلة الحوار، وذلك لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال الإقلاع عن سياسة "المحاصصة" والشروط والشروط المضادة.
يتفاءل البعض بالكلام الفرنسيّ الأخير، انطلاقًا من "ثابتة" قد يكون رسّخها على المستوى السياسيّ، وهي أنّ فرنسا لا تزال طامحة، بقيادة ماكرون، على لعب دورٍ "رياديّ" في المنطقة، قد تكون البوابة اللبنانيّة "الأمثل" لأدائه في هذه المرحلة. إلا أنّ مثل هذا "التفاؤل" لا ينبغي أن يغطّي على "واقعيّة" أنّ الحل يجب أن ينطلق من اللبنانيّين أولاً، وقبل أيّ بحثٍ آخر...