تشي كل التعقيدات السياسية والامنية أن لبنان لا يزال بعيدا عن الوصول إلى عتبة الانفراج الحكومي، وكل التقديرات حول المرحلة المقبلة لا توحي بالايجابية في ظل الصراع الدائر بين أهل الحكم، والذي تجاوز وتخطى حرب البيانات والصلاحيات بين "بعبدا" و"بيت الوسط"، ليصل إلى حرب النكايات السياسية مع إعلان عدد من مسؤولي طرابلس أمس أن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون رفض طلب رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب دعوة المجلس الأعلى للدفاع للاجتماع للبحث في الوضع الأمني في طرابلس، على رغم الإعتداءات التي توالت على مقار رسمية ودينية، تاركا الاوضاع في الشمال تدور رحاها على رمال متحركة سرعان ما قد تعود لتهب اذا لم تنجح الدولة وأجهزتها في إخماد النيران التي قد لا تقتصر على عاصمة الشمال إنما ستصل شرارتها إلى مختلف المناطق ليذهب لبنان كله الى جهنم، وهذا يعني أن من يحاول الاستثمار في الفوضى في الشمال لو حدثت، لن يكون في منأى عنها في مناطقه، وبالتالي لن ينجح في فرض مشاريعه أو شروطه الحكومية وغيرها.
تنبىء أحداث الأيام الماضية المعطوفة على صراع الجبهات السياسية أن أفق المبادرات مسدود. فالوساطات المحلية لم تحدث الخرق المطلوب ولم تستطع حتى الساعة ردم الهوة العميقة بين الرئيس عون والرئيس المكلف سعد الحريري الذي أعاد أمس التأكيد على حكومة من 18 وزيراً، لترد رئاسة الجمهورية على أنه لن تكون ثمة حكومة تناقض الشراكة والميثاقية والعيش المشترك الحقيقي، المبني على التوازن الوطني وحماية مرتكزاته.
في خضم كل ما يجري، شغل كلام الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لقناة "العربية" القيادات السياسية، مع إعلانه أنه سيقوم بزيارته الثالثة إلى لبنان بعد التحقق من أمور أساسية، وأنه سيفعل كل شيء لتشكيل حكومة في لبنان حتى لو كانت غير مكتملة المواصفات، مجددا انتقاده للنظام السياسي على اعتبار أنه في مأزق بسبب الحلف الشيطاني بين الفساد والترهيب.
وعلى رغم كل ما تقدم، شدد ماكرون على أن المبادرة الفرنسية هي الوحيدة التي تسمح بالتقدم نحو حل في لبنان، وخارطة الطريق الفرنسية ما زالت على الطاولة ولا حلول غيرها. وهنا يظن البعض أن المبادرة الفرنسية لم تسقط وان اتصال الرئيس الفرنسي والرئيس الاميركي جو بايدن قد يساعد على حل الازمة اللبنانية، لتقول مصادر مطلعة على الموقف الاميركي لـ"لبنان24" ان كل ما يجري لا يستدعي الترقب لأن الامور لا تزال في حلقة مفرغة. فما يدور في اروقة قصر الاليزية يؤكد ان ماكرون لن يتحرك مجددا تجاه لبنان قبل ان تعي القيادات السياسية مسؤولياتها تجاه الكثير من العناوين التي طرحت في "قصر الصنوبر"، وفي لقاءات موفدي الرئيس الفرنسي مع عدد من القيادات السياسية، خاصة وأن الدوائر الدبلوماسية الغربية تكاد تكون يائسة من اداء الطبقة الحاكمة وتسويفها في الدفع نحو تأليف حكومة تقوم بالاصلاحات، مع اشارة المصادر نفسها الى ان فرنسا تحاول جاهدة ان تملأ الفراغ الاميركي في لبنان اسوة بما تقوم به تجاه عدد من الدول الخليجية، السعودية على سبيل المثال، لكن الاكيد ان اي حراك فرنسي لن يبصر النور اذا لم يحظ بمباركة اميركية او تعاون بين باريس وواشنطن تجاه معالجة الملفات العالقة في لبنان لا سيما في ما يتصل بمفاوضات ترسيم الحدود البحرية.
وليس بعيدا، يعمل ماكرون على كسب الود السعودي. ففي كلامه امس اكد ان التفاوض مع إيران سيكون متشدداً جداً وسيُطلب منها ضمّ السعودية وعدم ارتكاب خطأ العام 2015 عندما استبعد الاتفاق النووي القوى الإقليمية، محذرا من ان الوقت المتبقي لمنع إيران من حيازة سلاح نووي قصير جداً، وهذا يعني، وفق المصادر نفسها، ان فرنسا سوف تستغل قرار ادارة بايدن تجميد صفقات اسلحة للسعودية، لتكسب الاخيرة كمشتر من منطلق ان امن السعودية في سلم اولوياتها.
اذاً، وأيا تكن الاهداف والدوافع الفرنسية للحضور في المنطقة، فإن باريس لن تترك لبنان، ولو جمدت مبادرتها لفترة، فهي بحسب مصادر معنية لـ"لبنان24"، سوف تعيد تشغيل محركاتها في وقت قريب وربما بطريقة مختلفة عن السابق، وتتواصل مع عدد من الدول العربية المعنية من أجل المساعدة ايضا لإخراج لبنان من أزمته بأقل الخسائر الممكنة، خاصة وأن حراجة أوضاعه الأمنية والاقتصادية تفرض تشكيل حكومة "مهمة" في أسرع وقت ممكن.