منذ منتصف الأسبوع الماضي، تخضع أحداث طرابلس للكثير من التحليل والتدقيق، بعدما "تباينت" المقاربات في شأنها، بين "تفهّم" الصرخة المُحِقّة لأبنائها احتجاجًا على الواقع المتردّي، وبين "الشكوى" من طابورٍ خامس غير بريء، دخل على خطّها، لغايةٍ في نفس يعقوب.
اتّفق الجميع على أنّ وراء التحرّكات في طرابلس، في المبدأ الأعمّ، "وجعًا حقيقيًّا" لم يعد أحدٌ قادرًا على التنكّر له، فالأزمة الاقتصاديّة لم تعد تُحتمَل، والاحتقان الاجتماعيّ على أشدّه، و"الصمود" لم يعد خيارًا مُتاحًا لكثيرين، ممّن انسدّت كلّ الأبواب في وجههم، وتجاهلت الدولة ومؤسساتها صرختهم، كأنّها لم تَكُن.
لكن، أبعد من هذا الاتفاق، ظهر الاختلاف على "تشخيص" ما حصل في طرابلس، بعدما تطوّرت الاحتجاجات بشكلٍ لم يستوعبه كثيرون، لتشهد المدينة الشماليّة العريقة مرّة أخرى على مخطّطاتٍ وُصِفت بالتخريبية، اختلط فيها "حابل" المطالب المُحِقّة، بـ"نابل" التخريب الذي لن يكون أحدٌ متضرّرًا منه سوى الشعب، كالعادة.
استغلال غير بريء!
بهذا المنطق، قارب تيار "المستقبل" الأحداث الأخيرة، ولا يزال، هو الذي يقول إنّ كثيرين من المحسوبين عليه وعلى بيئته، شاركوا في التحرّكات الاحتجاجيّة في بدايتها، لأنّها عبّرت عن "نبضهم"، تمامًا كما تعبّر عن "نبض" كلّ مواطن لبنانيّ ضاق ذرعًا بطبقةٍ سياسيّةٍ لا تشعر بحجم الأزمة، وتسدّ كلّ أبواب الحلّ.
لكنّ "التيار الأزرق" اشتمّ في الموازاة، ومنذ اللحظات الأولى، رائحة "استغلالٍ غير بريء" أراد البعض جرّ الشارع الطرابلسيّ إليه، من حيث لا يدري، وهو ما دفع رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري ليرفع الصوت منذ صباح الأربعاء، متحدّثًا عن "رسائل سياسية" خلف التحركات، ومحذّرًا من "استغلال لوجع الناس والضائقة المعيشية التي يعانيها ذوو الدخل المحدود".
وإذا كان تيار "المستقبل" لا يزال في طوْر جمع المعلومات حول ما حصل، وطبيعة المشاركين في التحرّكات، والذين تصدّوا لتغيير مسارها، مع ترك القضاء ليقول كلمته الفاصلة في هذا المجال، فإنّ المحسوبين عليه يؤكّدون المضيّ بالموضوع حتى النهاية، خصوصًا أنّ ما توافر لديهم حتى الآن من مُعطياتٍ يشي بأنّ "السياسة" تصدّرت المشهد، بمخطّطٍ يصحّ وصفه بـ"الجهنّمي".
كيف سيردّ "المستقبل"؟!
وفي السياسة أيضًا، لا يجد "المستقبليّون" حَرَجًا في الربط بين أحداث طرابلس، والأزمة السياسيّة المتفاقمة، حتى أنّ بعض قياديّي "التيار الأزرق" لا يتردّد في توجيه أصابع الاتهام إلى محسوبين على "التيار الوطني الحر" بالوقوف خلف الأحداث التي شهدتها عاصمة الشمال، تحريضًا إن لم يكن مشاركةً، ولو أنّ كثيرين يردّون بالقول إنّ مثل هذا الاتهام ينطوي على "مبالغةٍ" قد لا تكون شديدة الواقعيّة.
برأي هؤلاء، فإنّ هناك من يسعى إلى اعتماد تكتيك "الإحراج لأجل الإخراج" في وجه الرئيس الحريري، في الميدان، بعدما عجز عن ذلك في الأروقة السياسيّة، خصوصًا بعدما أضحى واضحًا أن رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل لا يريدان حكومة برئاسة "الشيخ سعد"، ويسعيان بكلّ ما أوتيا من قوة لـ"إزاحته" من المشهد الحكوميّ المقبل، بالقانون أو بأيّ وسيلةٍ مُتاحة أخرى.
لكن، بمُعزَلٍ عن التشخيص النهائيّ، يشدّد "المستقبليّون" على أنّ ردّ الرئيس الحريري على ما حدث، لن يكون إلّا بالتمسّك بموقفه الواضح في الملفّ الحكوميّ، فهو لن يتراجع عن "ثوابته" المُعلَنة والواضحة في هذا الإطار، وبالتالي "لن يخضع" لأيّ محاولاتٍ لتليين موقفه، وهو سيعتبر "صرخة" الناس المُحِقّة دليلاً على وجود أزمةٍ كُبرى، لن تُحَلّ سوى بحكومة إنقاذ حقيقيّة تتصدّى للإصلاح، بعيدًا عن نظام المحاصصة الذي عفا عليه الزمن.
صحيحٌ أنّ كثيرين ينقسمون في قراءة أحداث طرابلس، وتحديد طبيعة "المُستغلّين" لتحرّكات الناس المُحِقّة، إن ثبتت فرضية "الاستثمار السياسيّ". لكنّ الأكيد أنّ أحدًا لا يستطيع أن ينكر أنّ كلّ يوم تأخير في تأليف الحكومة، "كرمى لعيون" هذا أو ذاك، يرقى لمستوى "الجريمة"، بكلّ ما للكلمة من معنى...