اهتزت الأرض تحت أقدام السلطة في لبنان منذ تحرك الشارع في ١٧ تشرين الاول ٢٠١٩ وهي لم تكن ضمن حساباتها حيث طغت التسوية المبرمة بين " تيار المستقبل" و"الوطني الحر" وتصويرها وكأنها الترياق لعبور لبنان نحو شط الأمان.
انفجرت الشوارع ما أدى إلى انهيار تحالفات وسقوط اتفاقات فضلا عن تشظي المشهد اللبناني، حاولت أطراف الحكم التقاط أنفاسها مع تشكيل حكومة حسان دياب لكنها تلقت ضربة قاضية عبر انفجار مرفأ بيروت، وزاد من تعميق الازمة فشل المبادرة الفرنسية أو تفشيلها ما جعل الهوامش شبه معدومة، الأمر الذي يحتم على الحكم التفتيش عن خيارات بديلة ، وهنا المعضلة الصعبة كون الانهيار بات واقعا معاشا و"جهنم" تظلل حياة اللبنانيين.
التخبط في مستنقع الازمات بمثابة دليل عن سلطة فقدت توازنها كونها تكابر وترفض الاعتراف بفشلها، وما يجري راهنا ليس سوى الانتظار على رصيف الانتظار القاتل والتلهي بمواعيد الانتخابات في واشنطن او طهران او دمشق.
لا يمكن التهرب من حتمية السقوط الكبير مهما بلغ الدهاء حكم قوى الأمر الواقع ، وكل المعادلات الرياضية في احتساب الأعشار والاثلات في الحكومة تعتبر "تفليسة سياسية " بهدف تصفية شركة العهد وتعيين جبران باسيل حارسا على أصول الدولة ومتفرعاتها الدستورية والتشريعية والتنفيذية.
من هنا، ينبغي التمحيص جيدا في تصريح وزير الداخلية محمد فهمي حيال عدم القدرة على حماية المؤسسات العامة والبلديات كونه محاولة لنفض اليد وإعفاء الدولة من أدنى مسؤوليتها تجاه مواطنيها ،كما لا يمكن الاستهانة بحجم الفوضى والفلتان.
ليس من خيارات متاحة أمام السلطة للنفاذ من الواقع المأزوم أمام هذا الانسداد في تأمين إتفاق سياسي وفقدان لبنان الرعاية الاقليمية والدولية، من هنا يخوض جبران باسيل معركة حكومة العهد الأخيرة من زاوية المزاحمة لحجز مقعد على طاولة المفاوضات بصفته "ممثل المسيحيين الشرعي والوحيد" بما يضمن مستقبله ومستقبل تياره السياسي، والوضع نفسه ينسحب على الرئيس الحريري ولو بوطأة اخف واقل تعقيدا نسبيا.
لذلك، برزت مؤخرا عقدة الحصة الدرزية كونها المدخل المتاح أمام باسيل للامساك بقرار الحكومة منفردا من دون الاستعانة بالحلفاء ، فهو يسعى الى كسر ميثاقية وليد جنبلاط الدرزية داخل الحكومة، لكنه في المقابل يجهد ليرث مفاعيل توقيع بعبدا بعد انقضاء عهد عون دون القدرة على إبرام تسوية جديدة .
لدى الثنائي الشيعي حسابات أخرى تتجاوز المسرح اللبناني، فكل الداخل بتناقضاته وتحالفاته ينبغي اخضاعه لمعادلة إدارة إيران في المنطقة وتثبيت نفوذها وتكريس نفسها دولة مؤثرة في المنطقة والعالم، من هنا أهمية دور حزب الله المحوري في المرحلة الحالية كونه ورث التأثير السوري في لبنان ويعتبر حاليا درة تاج المحور الايراني المترامي الأطراف حتى حدود أوروبا والخليج العربي.
في ضوء ذلك، يحاول حزب الله ضبط إيقاع الساحة اللبنانية وفق تقلبات العلاقة الأميركية - الايرانية تفاوضا او اشتباكا، وحصر دوره كساعي بريد بين الحريري وباسيل من منطلق عدم اضاعة جهده في وقت ضائع وترك المبادرة لدى حليفه الرئيس بري للتناغم مع المبادرة الفرنسية فاجهضها باسيل لاعتبارت تتصل بخلافات وصراعات داخلية اولا ومن ثم بالعقوبات الأميركية التي يجهد للتخلص منها بأي ثمن.
كل هذه المعطيات تبدو سخيفة أمام الجوع الذي دخل بيوت اللبنانيين ، فباتت العائلات تستر نفسها بمساعدة قريب أو مساهمة مهاجر اوصدت أبواب وطنه في وجهه. وما شهدته شوارع طرابلس يشكل عينة صغيرة مما قد يجتاح شوارع لبنان من فوضى من أقصى شماله حتى جنوبه، مع الإشارة إلى عدم قدرة حزب الله على ضبط الوضع وتجنيب مناطق نفوذه لهيب الاحتجاجات الشعبية مهما بلغت قدراته الصاروخية، على غرار الداخل الايراني الذي يعاني اضطرابات حادة.
اما الرهان على الحل الامني واسلوب التشدد والقمع فقد يزيد التعقيدات ويساهم من تعميق المأزق، فمشاهد لملمة الناشطين من الشوارع كما يحصل وفق توصيات المستشارين في غرفة الأوضاع او متفرعاتها تعبر عن تأزم السلطة ووقوعها أسيرة حال الإنكار والانفصام التي تعيشها ، وهنا مكمن القلق على المصير في ظل التدحرج صوب هوة سحيقة لم ندرك قعرها حتى الآن.