أسوأ من فنزويلا
تفتقد ماريا عيسى (35 عاماً)، وهي مواطنة فنزويلية من أصل لبناني، فنزويلا كثيراً لدرجة أنها تشعر بالحنين إلى الوقت الذي تعرضت فيه عائلتها للسرقة من لصوص بحوزتهم سلاح أبيض. وهي تذكر من منزلها الجديد في شمال لبنان، ما حدث حينذاك بالقول "لم يعاملنا الرجال الملثمين معاملة سيئة، لقد قالوا لنا فقط نحن جائعون. حتى أن أحد اللصوص جلب لي كوباً من الماء".
عندما غادرت السيدة عيسى فنزويلا في عام 2018، كانت الدولة الواقعة في أميركا الجنوبية غارقة في أزمة اقتصادية وسياسية وإنسانية معقدة. وكانت تأمل في الحصول على فرصة أفضل في موطن والديّها، ولم تكن طبعاً لديها أدنى فكرة أن الاقتصاد اللبناني على وشك الانهيار، وأنها ستنجو من كارثة وطنية لينتهي بها الأمر في أخرى ربما تكون أسوأ. وبعد عامين ونصف، أصبحت عيسى وعائلتها من بين اللبنانيين الذين يتساءلون عمّا إذا كانوا قد اتخذوا القرار الصحيح. إذ تقولها صراحةً "لبنان الآن أسوأ من فنزويلا. أريد العودة إلى منزلي".
الهجرة العكسية من فنزويلا إلى لبنان
وفي سياق الحديث عن الهجرة اللبنانية إلى فنزويلا، تشير "فايننشال تايمز" إلى أن هناك تاريخاً طويلاً من الهجرة من لبنان إلى أميركا اللاتينية. وجزء من من الشتات الضخم منذ القرن التاسع عشر هم رجال الأعمال اللبنانيون الذين يبحثون عن تعزيز ثرواتهم في الخارج. وتذكر منهم كارلوس سليم، قطب الاتصالات المكسيكي من أصل لبناني، وكذلك شاكيرا، نجمة البوب الكولومبية، وميشيل تامر، الرئيس البرازيلي السابق. وبعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، هاجر المزيد من اللبنانيين. إذ تُبيّن التقديرات خروج 13 مليون لبناني على مدى عقود للعيش في الخارج، من بينهم والدا ماريا عيسى، اللذان انتقلا في عام 1985 إلى فنزويلا الغنية بالنفط للانضمام إلى أجدادها.
ولدت عيسى قبل فترة وجيزة من وصول هوغو شافيز إلى السلطة، وتزوجت في النهاية من مواطنٍ فنزويلي. وقد حظيا بابنتان، تبلغان من العمر الآن ثلاث وست سنوات، وكانتا تعيشان "حياة طبيعية" في منزل مريح يمتلكانه مكّون من أربع غرف. ولكن بعد ذلك تعمقت أزمات فنزويلا المتعددة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ما دفع حوالى 5 ملايين شخص إلى الفرار. وهكذا بدأ العديد من الفنزويليين-اللبنانيين، مثل السيدة عيسى، بالهجرة العكسية.
مفلسون تماماً
لطالما كان المغتربون اللبنانيون يمثلون شريان الحياة للاقتصاد اللبناني. فقد جرت العادة منذ عقود خلّت أن يرسلوا العملة الصعبة إلى المصارف اللبنانية، وأن يشتروا المنازل ويستثمروا في الأعمال التجارية. وفي كثيرٍ من الأحيان، بنيّة العودة إلى الوطن يوما ماً. لكن في عام 2016، بدأ تدفق الأموال من الخارج في الانحسار. لينفجر الاقتصاد اللبناني بعدها بثلاث سنوات.
عن هذه النقطة تحديداً، تقول سارة وزاني، وهي منسقة فعاليات ومصممة جرافيك لبنانية عادت من فنزويلا قبل 14 عاماً، للصحيفة البريطانية: "هناك أشخاص جلبوا كل أموالهم من فنزويلا إلى لبنان (من بين هؤلاء والديّها). ولقد فقدوا نصف أموالهم. وضعوا مدخراتهم في الحساب المصرفي هنا. والآن ماذا حدث؟ إنهم يخسرون مرة أخرى".
بالنسبة للفنزويليين من أصول لبنانية الذين يسعون إلى الهروب من كارثة فنزويلا، يُعد السقوط المدوي في لبنان مألوفاً بشكل مقزز. حيث تعرض كلا الاقتصادين لانتكاسات بسبب الحرب الأهلية والتضخم المفرط. تمخض عن ذلك سقوط ما يقرب من نصف سكان لبنان في دائرة الفقر، يقابل ذلك أكثر من 70 في المئة من فنزويلا. وبعد أن اعتادت وزاني على جمع التبرعات للعائلات الفقيرة في فنزويلا، تجد نفسها اليوم أمام موقفٍ معكوس وتحتاج من يمد لها يد العون.
غير أن سوء الحظ لم يكتفِ بتوجيه ضربة واحدة للبنانيين العائدين من فنزويلا، إذ تآمرت جائحة كورونا مع الأزمة الاقتصادية وأنهّت مطعم عيسى اللبناني الفنزويلي الصغير. وهذا ما أثقل كاهلها بحوالى 5 آلاف دولار من الديون بين قروض استحصلت عليها للعمل وإيجارات غير مسددة. لذا تقول: "نحن مفلسون تماماً".
وتلفت الصحيفة البريطانية في ختام تقريرها المحزن، الذي إن دّل على شيء فهو أننا بتنا فعلاً في الجحيم، أن كثير من الفنزويليين اللبنانيين البالغ عددهم 12 ألفاً الذين يُعتقد أنهم مسجلين في لبنان، قد غادروا بالفعل أو يريدون ذلك. ويحصل ذلك لأن هناك طرقاً أفضل لكسب العيش في فنزويلا، رغم أنهم يعلمون أن هذه الدولة لديها أعلى معدلات جرائم القتل في العالم. لذلك تقول السيدة وزاني: "عليكَ اليوم أن تقرر بين الأمن والاقتصاد". بدورها، تعبّر السيدة عيسى، التي تريد المغادرة، عندما تستطيع تحمل تكاليف تذاكر السفر، عن حسرتها قائلةً "نحن نعاني حقاً".