في تمام الساعة السادسة من عصر يوم الثلاثاء في الرابع من آب، رن هاتف كارلن حتّي، كان المتصل زوجها شربل كرم الرقيب في فوج إطفاء بيروت عبر خدمة video call، سألها عن إبنتهما الكبرى أنجلينا التي بالكاد أكملت السنتين من عمرها الطري، حَادثَ طفلته عبر الفيديو قائلاً لها كما في كل مرة لدى خروجه من مركز فوج الإطفاء في مهمة إغاثة "شوفي يا بابا ...أنا ورفاقي ال pompiers رايحين نطفّي النار"، فالصغيرة أنجي اعتادت أن تنظر بشغف وزهو الى والدها ببدلة الإطفاء وفي سيارة الإطفاء والى "pompiers" كما تناديهم في كل مرة كان يتصل شربل بعائلته الصغيرة لتطمينها عنه وللإطمئنان عليها.
لم يدم الإتصال بين شربل وكارلن سوى دقيقتين إذ سارع الى إقفال الخط بعد أن أخبرها أن شقيقها نجيب حتّي العريف في فوج الإطفاء تجاوز، بالآلية التي يقودها، سيارتهم بسرعة قصوى"بدي إلحقه... ما بعرف ليه مسرع هالقد".
في الواقع، لا شربل كرم كان يعرف، ولا نحن جميعاً كلبنانيين نعرف، وبعد مرور سبعة أشهر على إنفجار "بيروتشيما"، مَن دفع بهؤلاء الأبطال العشرة من فوج الإطفاء الى "حفرة الموت الأسود" في مرفأ بيروت، ولا مَن تسبب بحصد أرواح نحو مئتي ضحية، وسقوط الآف الجرحى وتدمير ما يقارب مساحة ثلث العاصمة.
كاترينا الإبنة الصغرى لشربل والتي كان عمرها ثمانية أشهر يوم استشهد والدها لا تعرف هي أيضاً حتى التمييز بين الشبان الثلاثة الذين جمعتهم صورة واحدة رُفعت في الخامس عشر من آب خلال "عرس الأبطال" الذي أقامته لهم قرطبا، البلدة المفجوعة بأبنائها الثلاثة: شربل كرم ونجيب حتّي وشربل حتّي، لان صورة الأب لم تكن قد اكتملت ملامحها بعد في ذاكرة الطفلة اليتيمة.
كارلن المصدومة بوفاة زوجها شربل، وأخيها نجيب وإبن عمها شربل تروي عن "زوغان عينيها" خلال مراسم الدفن قائلة "لم أكن قادرة على التمييز بينهم".
تحاول الشابة المتشحة بالأسود جاهدة القيام بواجبها كأم تجاه طفلتيها الصغيرتين، وهي تعمل كموظفة إدارية في جهاز أمني تاركة العناية بأنجي وكيتي لأهل شربل خلال غيابها عن المنزل، كما تحاول التوفيق بين عملها وعائلتها ومسعاها مع عائلات رفاق زوجها التسعة لمعرفة حقيقة من قتل أبناءهم وأحباءهم.
هذه الأم المكابرة على الدمع، الذي، ربما جّف من المآقي، لم ترضَ أن تحتفل بعيد الميلاد الأول لطفلتها الصغرى أنجي بعد غياب الوالد، فأصر الأقارب والأصدقاء على الإحتفال بعيد الطفلة خارج منزل العائلة، لكنها تعمدت تصوير فيديو قصير ليلة عيد الميلاد، حين لبست زي بابا نويل محتضنة طفلتها أنجي التي اعتقدت للوهلة الأولى أن من يتنكر بلباس بابا نويل هو حتماً والدها.
هذا الفيديو الذي انتشر على مواقع التواصل الإجتماعي أرادت كارلن منه أن يتضمن رسالة للجميع وهي "أننا لن ننسى ولن نستكين حتى نعرف الحقيقة".
الصغيرة أنجي تعملت أن تصلي لوالدها "يللي راح مع رفقاته"لإطفاء نيران كبيرة "لكنهم لم ينجحوا بذلك، كما روت لها والدتها، "فجاء يسوع وأخذهم معه الى السماء حيث المكان الأجمل".
يوم تكبرين يا أنجي الصغيرة ستخبرين أختك عن وطن أدمته الجراح ومن أجله استشهد والدك وخالك ورفاقهما والكثير من الأبرياء، وستخبرينها حتماً أن الظلم في أي مكان هو تهديد للعدالة في كل مكان، وربما ستحاولين إقناعها بأن"لا شيء يمنع إنهيار السماء على الأرض سوى أعمدة خفية إسمها العدالة، فإذا ضاع العدل إنهار كل شيء".