انهيار الجبل وحائط الدعم بعد نفق شكا وسقوط عدد من الجرحى"، نشر هذا الخبر على مختلف المواقع الإلكترونية وتصدر نشرات الأخبار على المحطات المحلية قيل في منتصف كانون الثاني من العام 2019. فما الذي حدث بعدها؟ جولة سريعة في "المقاطعة الشمالية" المتروكة إنمائياً واقتصادياً واجتماعياً تكفي للإجابة.
في دولة طبيعية، لن أقول "قوية"، تُنجز في ثلاث سنوات دراسة لأوتوستراد جديد يتخلله نفق وجسر، تُنفّذ الدراسة ويُعبّد الطريق ويُفتتح. بثلاث سنوات أيضاً يتم بناء وتجهيز مستشفى حديث ومدرسة، فما بالك بإستصلاح أوتوستراد دولي بعد انهيار صخري؟ هذا يبدو بديهياً في دولة يُعبر واقعها عن فحوى الكلمة. لكن في لبنان حيث التعبير فضفاض على قياس حكومة تصريف أعمال ومجلس نواب معطّل، فإن ثلاث سنوات فترة وجيزة جداً لأي عمل كان! انتخاب رئيس جمهورية جديد استهلك من الوقت سنتين ونصف. التحقيق في اغتيالات وقعت بين العامين 2005 و2008 لم يرشح عنها شيء والأرجح لن يرشح (باستثناء ما توصلت إليه المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه). الوقت بالنسبة لما يُصطلح على تسميته "دولة" بما فيها من أجهزة ومؤسسات هو ترف العاجزين.
مسلك بجزأين
هنا على الأوتوستراد الدولي الذي يصل بيروت بالشمال لا يزال كل شيء على حاله، وكأن الانهيار الصخري حدث بالأمس. منذ مطلع العام 2019 وحتى الآن يصول ويجول المواطنون ذهاباً وإياباً على الخط نفسه. فقد قُسم المسلك الغربي على الطريق السريع إلى جزأين بفواصل حديدية ليتسع للسيارات المتوجهة من بيروت إلى الشمال، وتلك الخارجة من الشمال إلى بيروت. تُحشر المركبات على الطريق فتبلغ الزحمة ذروتها في ساعات الصباح الأولى، وساعات بعد الظهر، فتصل أرتال السيارات إلى حدود بداية النفق. يخسر المواطنون من وقتهم وطاقاتهم وأموالهم بسبب التقاعس في إصلاح الطريق. فلو أن هذا الانهيار وقع في منطقة لبنانية أخرى، مسقط رأس أحد الزعماء مثلاً، هل كان ليأخذ كل هذا الوقت لإنجازه؟
العابرون على هذا الطريق (الدولي) غالباً ما ينشغلون في تأمل المجازر الحاصلة. انهيار الجبل، تجزئة الأوتوستراد، الحُفر التي تملأ الطريق، تحلل الزفت، وأخيراً سد المسيلحة الشهير الفارغ من المياه، والذي تم إنشاؤه بالقرب من معلم سياحي من المفترض أن يكون قبلة للسياحة للتعرف إلى حضارة المنطقة وهو المتمثل بقلعة المسيلحة. وبدلاً من أن يُحفّز انهيار الجبل الصخري بمحاذاة النفق المسؤولين المعنيين لتحسين واقع البنى التحتية في هذه النقطة، تحوّل الأمر إلى فرصة لتقاذف المسؤوليات ورمي التُهم والمتاجرة بالمواقف السياسية. فقد تعاقب على وزارة الأشغال منذ وقوع الانهيار إلى الآن وزيران هما يوسف فنيانوس الذي تولى الحقيبة مرتين، الأولى من 18-12-2016 إلى 31-1-2019 في حكومة سعد الحريري الأولى. والمرة الثانية في حكومة الحريري الثانية في الفترة الممتدة من 31-1-2019 إلى 21-2-2020. وحالياً يشغل المنصب الوزاري عينه في حكومة الرئيس حسان دياب المستقيلة الوزير ميشال نجار. كذلك تعاقب على وزارة المالية الوزيران علي حسن خليل في حكومتين سابقتين، وحالياً الوزير غازي وزني. هذا ويفترض أن تتغيّر أسماء الوزراء فور تشكيل الرئيس سعد الحريري المكلّف لحكومة جديدة. لكن المتوقع طبعاً ألا تتغيّر حال الطريق رغم ذلك، وفقاً لما درجت عليه العادة.
الشركة المتعهدة ورفع السعر
وكان آخر اجتماع عقد لمتابعة مسألة الانهيار واستصلاح الطريق في شكا في 24 أيلول من العام الماضي في السراي الحكومي، حيث وصف وزير الأشغال العامة والنقل ميشال نجار الملف بالقول: "موضوع انهيار الجبل المحاذي لنفق شكا لا يحتمل التأخير ويهدد سلامة المواطنين ويعزل منطقة الشمال". وأضاف: "حملنا صرخة المواطنين الذين بدأوا بالتحرك أمام النفق. فصل الشتاء يقترب، وقد نواجه كارثة كبرى ما لم تتم معالجة هذه المسألة بشكل سريع. وقد توقفت الشركة المعنية عن العمل بسبب سوء الوضع الاقتصادي. وفي خلال الاجتماع، اتصلنا بحاكم مصرف لبنان، وتم طرح صيغتين لحل المشكلة وتبنّي إحداهما، وسيتم تبليغ الشركة المعنية القرار لمعاودة العمل. نحن نعتبر أنها الفرصة الأخيرة لإنقاذ هذا النفق الحيوي وتأمين سلامة المواطنين".
وفي اتصال مع "نداء الوطن" أكد نجار أن "مسؤولية حلّ مشكلة الطريق في شكا تقع على عاتق الهيئة العليا للإغاثة وليس وزارة الأشغال"، موضحاً أن "الوزارة سعت بأكثر من مناسبة وفي أكثر من اتجاه لحل هذا الأمر ولكن الوضع الاقتصادي السيئ وانهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار الاميركي أديا إلى رفض الشركة المتعهدة متابعة العمل إلا في حال رفع السعر".
وأشار إلى أن "مصرف لبنان كان قد وعد بصرف مبلغ إضافي للشركة لكي تعاود مزاولة العمل، ولكن للأسف فإن الأمور في البلاد تتجه نحو الأسوأ يوماً بعد يوم". وللوقوف على حقيقة الأمر حاولنا الاتصال مراراً بكل من مدير الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير، والمتحدث باسم الشركة المتعهدة جان كيروز، لكن من دون الحصول على أي ردّ. ربما يجب أن ننتظر لنحصل على رد منهما إلى أن تنتهي الصيانة المطلوبة، أي عندما تصعد السلحفاة إلى الشجرة.
من جهته يوضح الإيدرو جيولوجي والخبير في المياه الجوفية سمير زعاطيطي أن "المشكلة الأساسية في ما يحدث في لبنان تتمثل بعدم فهم بعض المهندسين الجيولوجيين لطبيعة الصخور التي يعملون فوقها"، مشيراً إلى أنه "من المفروض قبل المباشرة بأي عمل أن تقوم الجهات المعنية بإعداد دراسة جيولوجية مفصّلة تحدد طبيعة الصخر، وإذا كان ممكناً العمل فيها أم أنها تحتاج إلى معالجة".
تجفيف الصخور
وعن موضوع الانهيار الصخري في شكا، يوضح زعاطيطي أن "المشكلة في تلك المنطقة تظهر في فصل الشتاء غالباً، وذلك يعود لكون الصخور الموجودة هي صخور طينية مارلية، أي أنها تتألف من مواد صلصالية زائد كاربونات. عندما تكون جافة فإنها تحتمل أثقالاً كثيرة، ولكن عندما تتشبع بالمياه تصبح رخوة وينتفخ حجمها فتضغط باتجاه الطريق العام. وما يجعل الأمر يزداد سوءاً هو أن الجدار في تلك المنطقة انحداره قوي ويساعد على الانزلاقات الطينية المفاجئة. كما أن حائط الدعم الموجود أُنشئت قاعدته على الصخر الطيني الذي يزحل بسهولة في الشتاء، وبالتالي فهو لا يشكل حلاً بل مشكلة بذاتها".
ويرى أن "الحل يكمن في تجفيف الصخور من المياه. فمن الممكن بعد القيام بدراسة مفصلة لطبيعة المنطقة أن يُحفر بئر لسحب المياه التي تتجمع في الشتاء أو تجليل الجدار وزرع أنواع من الشجر التي تمتاز بجذور عميقة تمتص بطيبعتها كميات كبيرة من المياه، وهو علاج نهائي ولمرة واحدة يمنحنا نعمة عدم الشكوى المتكررة من المشكلة نفسها سنوياً".
أما في ما يتعلق بسد المسيلحة فيشير إلى أن "طبيعة الصخور الموجودة هناك غير صالحة لبناء السدود عليها، وليست طبيعة الصخور إلا سبباً في تفسخ القاعدة الباطونية التي بُني عليها السد. فكما أشرنا إلى ان الصخور المارلية عندما تتشبع بالمياه تفقد قدرتها على حمل الأوزان الباطونية الثقيلة، وهو ما يؤدي إلى تشقق وتفسخ القاعدة وبالتالي تسرب المياه نحو بواليع بالطبقة الطينية، وهو ما حدث فعلاً عقب ملء السدّ بالمياه، حيث سحبت تلك البواليع المياه من السد الى فراغات صخرية على طول كسر البترون الملاصق نحو البحر، بدليل وجود صور التقطت عبر الأقمار الاصطناعية تبين موجة وحل كبيرة في البحر، في وقت كان الطقس صافياً جداً وكانت مياه نهر الجوز صافية وغير موحلة".
العمل متوقف
بدوره أكد رئيس مجموعة "استشاريون بلا حدود" المهندس زكريا الزعبي أن "الانهيار الحاصل يعود لعدة أسباب أهمها طبيعة الأرض في تلك المنطقة، فعندما شُقت الطريق في العام 1983لم تُدعّم بالشكل المطلوب بل كان الأمر على الطريقة اللبنانية التي تعتمد على مبدأ أن "حجرة تسند خابية"، بالإضافة إلى أن الطبيعة الجيولوجية للأرض تأثرت كثيراً بعد الأعمال التي نُفذت لإقامة سدّ المسيلحة"، مشيراً إلى أن "الأعمال لاستصلاح الأرض لا تتطلب أكثر من ستة أشهر إن كانت هناك جدية حقيقية في العمل".
وأوضح الزعبي أن "الوضع الاقتصادي أثّر من دون شكّ على عمل المتعهد ولكن هذا لا يعطي أحداً الحق بالاستهتار بحياة الناس، لأن الجبل معرض للانهيار مرة أخرى، والمسؤولية هنا تقع بالدرجة الأولى على الدولة اللبنانية التي يجب أن تطبق دفتر الشروط