في نهاية العام الماضي، وجدت الدولة اللبنانية نفسها أمام معضلة عدم القدرة على طباعة كتب مدرسية للطلاب، وذلك بعدما رفضت الشركات التي كانت تتولى تلك العملية في العادة، المشاركة في المناقصات بسبب تقلبات الأسعار وارتفاع سعر الدولار.
وحينها، استنجدت وزارة التربية بمنظمة "اليونيسيف" لتمويل طباعة الكتب المدرسية، وهذا ما حصل فعلاً، وإلا كان الطلاب سيمضون عامهم الدراسي "الهش" من دون كتب، ناهيك عن الصعوبات الأخرى التي يواجهونها بسبب اقفال المدارس ورداءة التعليم عن بُعد.
وفي الواقع، فإنه لولا "نجدة اليونيسيف"، لكانت الدراسة في لبنان أصبحت في خبر كان. في ذلك الوقت، تنفست وزارة التربية الصعداء قليلاً، وأزاحت كاهل تكلفة الكتب المدرسية عنها لأن "الدولة مفلسة" و "ما فيها تطبع شي". أما اليوم، فإن وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال طارق المجذوب يصر على إجراء الامتحانات الرسمية، وقد عيّن التواريخ لذلك. ومن جديد، تبرزُ مشكلة التمويل الكبرى أمام قدرة الوزارة على اتمام الامتحانات. وحقاً، الدولة تعاني من العجز، ولم تستطع طباعة كتب.. فكيف يمكن لها تمويل الامتحانات التي كانت موازنتها في العام 2019 تبلغ نحو 16 مليار ليرة؟
ومجدداً، عادت الدولة لتستعين بالجهات الخاصة لتمويل الامتحانات، وهذا أمرٌ أبلغه وزير التربية لزواره ، وفق ما ذكر "لبنان24" الأول من أمس، إذ قال إنه "ليس لدى الدولة القدرة على تأمين الأموال اللازمة لإجراء الامتحانات الرسمية"، لكنه لم يسمّ الجهة التي ستتولى تلك العملية.
ووسط كل هذا العجز، يبرز إصرار وزارة الداخلية على إجراء الانتخابات النيابية الفرعية التي كانت من المفترض أن تجرى يوم 28 آذار الماضي، وذلك لاختيار 10 نواب عن المقاعد الشاغرة. إلا أنّ ذلك التاريخ قد ولّى، كما أن مرسوم دعوة الهيئات الناخبة لم يصدر بعد، وحتى الآن لم يتحدّد أي تاريخٍ جديد لإجراء تلك الانتخابات وسط غياب حكومة وتردّي الوضع الاقتصادي والمالي.
وحقاً، فإن "الإنفصام" الذي يعيشه المسؤولون في لبنان كبير.. ففي دولة لا تستطيع طباعة كتب لطلابها، ولا تستطيع تمويل امتحانات.. فكيف يمكنها إجراء انتخابات؟ من أين ستأتي بالأموال لإجراء هذا الاستحقاق وسط تراكم الأزمات؟
وفعلياً، فإن تكلفة الانتخابات الفرعية تصل إلى 8 مليار ليرة (نحو 530 مليون دولار على سعر صرف 1515 ليرة لبنانية و 666 ألف دولار على سعر دولار 12 ألف ليرة لبنانية). وقبل فترة قصيرة، كان وزير الداخلية أعلن عن هذا الرقم، ثم عاد وأكد إن الاستحقاق الانتخابي يواجه صعوبات مالية بالدرجة الأولى. ومع هذا، فإن "الإصرار الكلامي" على إجراء الانتخابات مستمر.. فـ"بيع اللبنانيين الكلام" بات عادة، كما إنّ غياب التطبيق على أرض الواقع عادة أيضاً.
ومن جديد "الانفصام" كبير.. إن كنتم لا تستطيعون إجراء امتحانات رسمية ولا انتخابات فرعية.. فكيف يمكنكم اجراء الانتخابات العامة في العام المقبل، علماً إنها كلفت لبنان في العام 2018 نحو مليار دولار؟ الأجدى أن تطرح وزارة التربية هذا السؤال في مادة "التربية الوطنية" لتستطلع الدولة المهترئة آراء وأجوبة طلاب البلد ونظرتهم لانفصام المسؤولين وفسادهم.
قد يكون رقم تكلفة الانتخابات النيابية عام 2018 أقل بقليل من المبلغ المتبقي لدعم المواد الأساسية في لبنان "المفلس". ولمن خانته الذاكرة قليلاً، فإن العام 2022 سيشهد على انتخابات بلدية في أيار، ومن المفترض أن يشهد انتخابات نيابية في الشهر نفسه، كما أنه "يُفترض" أن يُنتخب رئيس جمهورية جديد لينتهي بذلك عهد ميشال عون. فمن أين ستتوفر الأموال لاجراء استحقاقين في شهر واحد؟ هل ستعمدون إلى طباعة الليرة مقابل عدم وجود تغطية بالدولار لتمويل انتخابات على أنقاض الانهيار؟ هل ستحركون أزلامكم في السوق الموازية وتفرضون شروطكم المالية لجمع الأموال من الناس لتمويل عملية التجديد لأنفسكم؟ هل ستعمدون إلى بيع الذهب للبقاء في السلطة؟
حتماً، لا انتخابات العام المقبل إلا في حال حصول معجزة. ولكن، فإن ما يبدو هو إنّ التمديد قائم، والفراغ أمامنا والإنهيار في كل حدبٍ وصوب، وما لا يمكن اغفاله أيضاً هو أنه ما من جهة دولية مستعدة لتمويل استحقاق انتخابي قد يحررنا ولو قليلاً من هذه الطغمة الحاكمة.
ووسط كل هذا المشهد، فإن الدولار سيبقى محلقاً في ظل غياب حكومة انقاذية قادرة وفاعلة تأخذ ثقة الدول وتساهم في تفعيل عجلة الاصلاح. أما ما يؤكد أيضاً على استحالة إجراء الانتخابات هو مطالبة العديد من الأطراف السياسية بقانون انتخابي جديد "على قياسهم".. وهنا، ستعود المفاوضات، وستبرز الخلافات على الحصص، وستتعمق المناكفات لتحصيل ما يمكن تحصيله من مقاعد في دائرة هنا أو هناك وفي الحقيقة، كل ذلك سهل أمام خيار اللبناني في يوم الاقتراع، إذ يجب أن يكون شعاره هو "التغيير" لإزاحة طبقة "الإفقار والتعتير".. وحقاً، من ساهم في التدمير لن يصلح للتعمير..