بكل أسف، وبكل حزن، وبكل ألم يعصر القلوب، يمكن القول إن ما جرى أمام مقر الرئاسة الثانية في عين التينة لم يكن مشهدًا عادّيًا. فأمام وجع أهالي ضحايا إنفجار المرفأ تسقط كل الإعتبارات، ومعها تسقط كل الحصانات. لا شيء يعلو صوت الحقّ، وصوت العدالة وصونها. أيًّا تكن الإعتبارات التي يتمسّك بها كل من ورد إسمه في "مضبطة" المحقق العدلي طارق البيطار، لأنها لا تساوي أي شيء في نظر الأم الثكلى التي فقدت ولدها، وهي لا تعوّض والدًا نشفت دموعه لكثرة ما إنتحب لخسارة إبنته، ولا تروي غليل خطيب أدماه غياب خطيبته في غفلة من الزمن، ولا يمكن أن تعيد الذين سقطوا نتيجة إهمال أو تقاعس أو مؤامرة أو مخطّط جهنمي.
أمام هول هذه الكارثة، التي لم يرَ العالم لها مثيلًا في تاريخه الحديث، تسقط كل الحواجز، وتتلاشى الشكليات،وينتفي مبدأ التساوي في الحقوق والواجبات. الجميع مسؤولون عن جريمة العصر. جميع الذين يجلسون على كراسي المسؤولية منذ اليوم الأول لدخول هذه المواد المتفجرة والخطرة إلى مرفأ بيروت حتى اليوم مسؤولون، أيًا تكن مسؤوليتهم المباشرة أو غير المباشرة، معنوية كانت أم مادية، من كبيرهم حتى صغيرهم. المسؤولية مشتركة.
فبعد "مضبطة" القاضي البيطار لم يعد من الجائز التلطي وراء حصانات هشّة لن تفيد من يتمتعون بها بشيء متى سقط الهيكل على رؤوس الجميع.
الدمعة المعبّرة التي ذرفها ذاك العنصر في الجيش المجبر على الوقوف في وجه أصحاب الحق إختصرت بمعانيها الإنسانية معاناة شعب لامس حدود الكفر بكل شيء، ولم يبق أمامه سوى العدالة لكي يلجأ إليها، وهي أمله الوحيد، وقد يكون القاضي البيطار وأمثاله هم خشبة الخلاص الوحيدة في بلد ضاعت فيه"طاسة" المسؤوليات.
فرئيس الجمهورية مسؤول. وكذلك رئيس الحكومة الحالي ووزراء الدفاع والداخلية والعدلية والأشغال العامة، وجميع القيادات الأمنية ومسؤولو الجمارك، وكل من كانت له مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة بأمن المرفأ والناس، حتى الذين لا صفة رسمية لهم مسؤولون، وقد تكون مسؤوليتهم أكبر من الجميع، لأنهم موجودون في مكان غير مخصّص لهم ولا شأن لهم فيه، تمامًا كما هي الحال في مطار بيروت.
أمام هول تلك الجريمة البشعة لم يعد من الجائز التلطي وراء الأصابع، وبالتالي الخوف من قول الحقيقة كما هي من دون إضافات تجميلية.
فالحصانات التي يحتمي وراءها البعض لم يعد لها أي قيمة، خصوصًا أن كل مدّعىً عليه متهمّ حتى تثبت براءته، وليس العكس، لأن المبدأ المعمول به في كل عدالات العالم، أي أن كل متهم بريء حتى تثبت براءته، لا يجوز تطبيقه في هذا الأمر الخطير، الذي هو بمثابة جريمة جماعية تطال مجتمعًا بإسره، من حيث عدد الضحايا والجرحى والدمار الهائل الذي خلّفه الإنفجار "النووي".
للذين يحتمون بالحصانات، وقد يكونون أبرياء حتى أكثر من البراءة نفسها، أن يسقطوا هذه الحصانات بأيديهم، ويذهبوا إلى القاضي البيطار ويضعوا أمامه ما يملكونه من معلومات ومعطيات حتى يعرف أهالي الضحايا، ومعهم جميع اللبنانيين، مَن أدخل مادة نيترات الأمونيوم إلى قلب بيروت، وما هي الغاية من إدخالها، ومن هي الجهة التي غطّت ولا تزال تغطّي الذين تعاموا عن الحقيقة، ولماذا أبقيت هذه المواد في مرفأ بيروت طوال كل تلك الفترة من دون إتخاذ أي تدبير إحترازي.
هذه الحقائق وغيرها الكثير المطلوب أن توضع برسم الرأي العام، وأن يحاسب من تجب محاسبته، وأن يكون عبرة لمن إعتبر، وذلك قبل أن تضيع الحقيقة، كما ضاعت من قبلها حقائق كثيرة، ومنها جرائم سياسية.