على مدار عشر سنوات ما قبل اندلاع الثورة، سجّلت الموازنة العامّة والميزان التجاريّ عجزًا قُدِّر بـ -١١,١٪، كذلك بلغ ناتج العجز في الناتج القوميّ ١٥٠٪ في العام ٢٠١٧. في الواقع، تشكّل هذه الأرقام عجزًا يصل إلى ٢٢,٦٪ عند مقارنتهاِ بأرقام العام ٢٠٠٧ الّتي وصلت إلى ١٥٪. ولا يُخفى عن أحد أنّ النظام الاقتصاديّ اللبنانيّ حينها قد موَّل تلك العجوزات من تدفّق الودائع عبر مصرف لبنان والمصارف التجاريّة. وكان قادرًا بتلك الحيلة على وقف تدافع أحجار الدومينو الاقتصاديّ... إلى حين.
لكن، عندما فقد اللبنانيّون ثقتهم بالنظام المصرفيّ، سحبوا ودائعهم في معركة ضدّ الوقت وضدّ كابيتال كونترول محتوم. أدّى هذا السيناريو إلى توقّف مفاجئ بحسب تعريف علم المال والاقتصاد، ويحصل عندما يترافق انخفاض تدفّق رؤوس الأموال الحادّ مع الركود الاقتصاديّ والإصلاحات في السوق الوطنيّ. هذا ما دفع المواطنين إلى البحث عن الاستثمار خارج المنظومة الاقتصاديّة المحلّيّة، الّتي تأثّرت سلبًا لهشاشتها.
تكمن المعضلة في أنّ السلطة السياسيّة لم تفكّر في حلول طويلة الأمد، بل كانت تراهن على استمرار تدفّقات الأموال الخارجيّة، ولا سيما أنّ المستثمرين قاموا بتلبية حاجات الحكومة التمويليّة، إذ ساهمت ثلاثيّة: المستثمرين، والمودعين اللبنانيّين المحلّيّين والمغتربين، والمودعين الإقليميّين في الحفاظ على إيجابيّة مؤشّر صافي الأموال المودعة بالعملات الأجنبيّة لسنين عدّة.
إنّ تعرّض النظام المصرفيّ اللبنانيّ لصدمة تشرين الأوّل ٢٠١٩ فضح هشاشته، لأنّه قائم على التفاعل المتبادل بين أربعة دعائم تربط الاقتصاد المحلّيّ ببعضه: مصرف لبنان، والمصارف التجاريّة، والحكومات المتعاقبة، والقطاعات الخاصّة. وبدل أن تساند هذه الدعائم المنظومة الاقتصاديّة في حال تعرّض إحداها لأزمةٍ ما، شاهدناها تتساقط كما أحجار الدومينو وتسارِع من انهيار نقاط القوّة الأُخرى وتُضعفها.
وفي المشهد اللبنانيّ نجد أنّ القطاعات الخاصّة هي المغذّي الأساسيّ الّتي من شأنها أن توقف تأثير الدومينو هذا. لكن للأسف، كما جرت العادة في أيّ إصلاح سابق، تُهمل نقاط قوّة اقتصاد لبنان الحرّ على حساب التركيز على الحكومة. إذ يتلقّى سوق الاستثمارات الخاصّة في لبنان الضغط الأكبر إثر الانهيار الاقتصاديّ، فالحكومة لا تضع سياسات مفهومة وواضحة، والمصارف لا تخفّض من فوائدها، بل تضيّق الخناق على أيّ شركة بدل أن تساعدها في القيام بعمليّاتها المصرفيّة بطريقة تمكّنها من النهوض من أزمتها.
إنّ كارثة السيولة بالعملات الأجنبيّة الّتي طالت البلد، تتبعها اليوم أزمة سيولة الليرة اللبنانيّة، وهذا أمرٌ متوقّع في الضيقات الماليّة، لأنّه من غير الممكن تحويل الأصول المتوافرة إلى سيولة في السوق. وبما أنّ الدولة اللبنانيّة غير قادرة على تسديد ديونها إلى المصارف، فإنّ العجز سيكون أكبر، ممّا يؤدّي إلى ركودٍ اقتصاديٍّ أكبر، ويتعاظم تأثير تساقط الدومينو عندما تجفّ السيولة الماليّة، وتزداد سياسات الحجز على الودائع الصادرة شدّةً، مع استمرار سياسات الدعم غير المدروسة.
للحدّ من تدهور الوضع الاقتصاديّ في لبنان، على الحكومة "المنتظرة" أن تتكافل مع القطاع المصرفيّ لتطوير مشروع إصلاح المنظومة الاقتصاديّة والماليّة ضمن سياسات فعّالة، وإعادة هيكلة تساعد على فصل الدين الحكوميّ عن مشكلة السيولة. كذلك، فإنّ تشكيل الحكومة الجديدة سيساعد على فكّ التجميد على الودائع لأنّه سيقوم بحلّ معضلة توقّف السيولة الخارجيّة، مما سيُنعش القطاع الاقتصاديّ ويُعيد إليه شيئًا من الثقة المفقودة.
يبقى الحلّ الجذريّ في دعم القطاعات المنتجة، لأنّها تساعد على استدراج السيولة الخارجيّة وهي في الكثير من الأوقات تستبدل دور المصرف المركزيّ في هذه المهمّة، والحفاظ على الاحتياطيّ الإلزاميّ الّذي يتناقص بسبب دعم المواد الأوّليّة والمحروقات والكهرباء، إلخ...
كي ننتقل من مرحلة الانهيار إلى إعادة البناء، على الحكومة الجديدة أن "تُهيكل" دين الشركات والقطاعات الخاصّة كي تقوم بدورها في نهوض لبنان اقتصاديًّا، ولا سيّما أنّ هذه القطاعات لا ينقصها الخبرة، ولا السمعة، ولا الابداع، لكن ما تحتاجه هو سياسة دعم داخليّة تقوم على مساندة القطاعات الاستثماريّة لتكون بدورها حجر الزاوية الّتي يُبنى عليه أمن لبنان الاقتصاديّ. فهي قادرة على إيجاد حركة معاكسة لتساقط الدومينو الاقتصاديّ، فهي توفّر فرص العمل، وتزيد من الانتاجيّة، وتتغلّب على عجز النظام الاقتصاديّ الريعيّ، وتوفّر من جديد مودعا لبنانيّا قادرا أن يعيش، ويخطّط، ويدَّخر، ويستثمر في بلده.